متى بلغ الطفل 72 شهراً أو قبل ذلك بقليل أو بعده بأقل، كانت الأسر تدفع بأطفالها إلى (المعلامة) ليبدأ التعليم بقراءة القرآن الكريم، لدى (الفقي).
تتضاعف في المعلامة القوانين التي لا بد أن يلتزم بها الطفل أكثر مما كان عليه في البيت، وتزداد نسبة التعامل بصرامة عما كان عليه الحال في الأسرة.
وتتوسع في المعلامة دائرة العلاقات والمعرفة، ويتعدد الأصدقاء، ولا تخلو هذه الصداقات في كثير من الأحيان من الخصومة والقطيعة، شأنها في ذلك شأن كل الصغار في كل زمان ومكان.. ودائما ما يكون وراء هذه القطيعة وتردي العلاقات البينية أسباب تافهة؛ ولأن السذاجة تلازم الصغار دائما - في كل مكان وزمان أيضا - فتتكرر القطيعة؛ ولأسباب ساذجة وسخيفة كذلك!
لكنها هنا في المعلامة قطيعة محدودة الزمن، معدومة الأثر.
قد تكون العلاقة بين اثنين مثلا طيبة وممتازة، فيجلب أحدهما معه إلى المعلامة شيئا من أكل، فيعطي لصديق ويمنع آخر بلا مبالاة أو هفوة؛ فتكون القطيعة، حيث يقوم الآخر بالتكلف اليوم الثاني لإحضار لعبة أو شيئا من أكل، كل ذلك ليرد على صاحبه بمثل ما عامله به بالأمس، مجرد مناكفة ليس إلا!
شقاوة صغار المعلامة دائما ساذجة، وفيها كثير من الطرافة، لكن سخافة بعض (الصغار) بليدة وبائسة، وقد تكون أحيانا مدمرة !
للأطفال في المعلامة، عند أي إشكال يتطور مرجعيتان: (الأسر) أحيانا، و(الفقي) غالبا.
و(للفقي) دائما صرامة وهيبة تحزم وتحسم كل خلاف، وله عند تلامذته احترام وتوقير، كما أن لصغار المعلامة براءة وفطرة تتناسى كل خلاف!
يكبر أطفال المعلامة، وتكبر مداركهم، وتتوسع آفاقهم، وتتسع ثقافتهم، ويصيرون رجالا أو نساء كبارا، وتتشعب بهم الحياة.
لكن البعض يكبر، ويظل صغيرا، تظل معه الشقاوة ولكنه يفقد البراءة، وتكبر معه السذاجة البائسة، وتختفي الفطرة الطيبة !!
أسباب الخصومة والقطيعة التافهة، والساذجة في حياة صغره المتأخرة لا تكبر، ولكن ما يكبر بشكل مخز ومحزن هو نتائج تلك السذاجات والتفاهات.
وما يزيد الطين بلة، أن (الصغار) هنا ليس لهم أي مرجعية، صغار ولكن بلا (فقي) ولا أسر، أو كما يقول المثل: لا عقل ولا عقال !
وتزداد المسألة فجيعة، أن يغدو مثل هؤلاء الصغار في محل المسؤولية، وتكون الفجيعة أكبر أن يكون مسؤولا كبيرا في مؤسسة ما أو عمل حزبي أو منصب رسمي، بينما هو في الحقيقة (صغير) !
لكن المحذور الأشد، والطامة الكبرى التي تخشى هو أن يصل مثل هؤلاء الصغار؛ ليس إلى مستوى رفيع في حزب أو شركة أو منصب رسمي فقط؛ وإنما الطامة أن يأتي يوم يصل فيه أمثالهم إلى سدة الحكم في بلد ما، فتسود السذاجة وتوافه الأسباب العلاقات البينية بين البلدان، وتتقطع العلاقات؛ لأن عقلية هذا الصغير منذ كان في المعلامة لم تتغير، والذي تغير فقط انتفاخ الجسم وخسران البراءة والفطرة، وفقدان المرجعية !
والأسوء من كل ذلك؛ أن تحل التبعية محل المرجعية، فتضيع تبعا لذلك البراءة والوطنية والكرامة والهوية !
كم نحن بحاجة إلى براءة الطفولة، وحنكة الرجولة، ومرجعية حكيمة، ونحن أشد حاجة إلى أولئك الصغار الأبرياء الذين يصيرون رجالا يوقرون العلم، ويحترمون الكبار، ويعطفون على الصغار ويعززون علاقات المجتمع ببعضه ومع جيرانه، والمحافظة عليها من( الصغار )!
غير أن الدنيا ما تزال بخير، فتلك النوعية من الصغار لم يصلوا بعد إلى سدة الحكم في أي بلد، وهذا - إن كان فهمي صائبا - أمر جيد!!