منذ نعومة أظافره، وعند نسيم الصباح الباكر، اعتاد أن يقبل رأسها قائلاً: "رضاك خير من الدنيا وما فيها" ثم يغدو يتمتم بـ"صباح الخير صباحه ويا ليمة.. يا تفاحة" مسرعاً أمام ناظريها في أفق طموحه كطير النورس الجميل، يكاد فؤادها يطير في إثره عند كل لحظة يتأخر فيها. لا يستكين القلب المحب حتى يعود إليها معانقا وكأن ملكوت السموات والأرض بين يديها..
يزن ذو العشرين ربيعاً التحق مؤخراً بكلية الإعلام في العاصمة، ليغادر قريته مستبشراً بمستقبلٍ زاهر، بمجرد أن علم بقبوله من بين ثلاثة آلاف متقدم للتسجيل.
فيأتي مسرعاً إلى أمه التي أجهشت بالبكاء في عناق الأم لفلذة كبدها، وهي تستنشقه كما لو كانت تشتم ريحانة عطرة و قد التوت يدها اليسرى على ظهره بينما أصابع اليد اليمنى تعبث بشعره بعد أن خذلتها قدماها عن الصمود بالخروج إلى مدخل القرية حيث تجمع أصدقاؤه ومحبيه لوداعه أيضا..
مرّ ذلك الصباح كشهرٍ مظلم وعندما حان وقت الغداء؛ لم تأكل حتى اتصل بها يزن في وقت متأخر من الليل قائلا: " الووو امااه أنا بخير.. وصلت صنعاء با ادرس واشتغل واستأجر بيت واجيبش عندي ترتاحي من الرعي وزراعة الشعير والذرة". ابتهجت وذرفت عيناها الدموع بصمت كيلا يحزن وقالت له: "يزن، الزمزمية السمن وأقراص البلسن مكانها؟ وإلا غالطتك وشلتهن العقربة جارتنا تقية لعيالها العسكر؟!" ضحك يزن وقال لها: " لا لا يمااه لا تخافي حصلتهن مكانهن داخل الدعاية المربوطة بمشمع داخل الكرتون الملفوف بالنقاب حقش الذي دخلتيهن في الشوالة المخيطة مثل ما فعلتيها انتي بيدش" عندها ارتاح بالها وتناولت وجبة طعامها الذي كان بالنسبة لها غداءً وعشاءً.
لم تمر على مغادرة يزن منزله سوى ثلاثة أسابيع حتى تم مداهمة سكن الطلاب من قبل جماعة الحوثي وأُخذ كل من يسكن فيه بتهمة الداعشية والإرهاب ومن ثم تم اقتيادهم إلى جهة مجهولة لا يعرف مكان اختطافهم حتى اللحظة..
أسبوع كامل وقلب أمه يحترق وتتساءل بصمت عن سبب تأخره في الاتصال بعد أن كانت قبل ذلك اليوم المشئوم لا تنام إلا بعد أن تسمع صوته، بينما الجميع يخفي الخبر عنها لا تعلم ماذا حدث وسط شكوكها أن يكون قد جفاها، أو سار عرض الطريق كما يشاع في قريتهم عن كل من يجلس في أسواق العاصمة بدون شغل أو سبب، لكن عندما اكتمل الشهر وتأخر عن الموعد رفعت صوتها بالتساؤل أين يزن؟!!
ليش تأخر؟!!
ماوقع به؟!!
عندما لم يجبها أحد، ارتفع صوتها بالبكاء حتى اجتمعت نساء القرية اللاتي يعلمن ماذا حدث ليزن، حاولن تطمينها وتهدئة روعها لكن إحساس قلب الأم كان أصدق من الإيمان المغلظة والقسم ومن كل تبريرات النساء. حتى أفصحت إحدى المسنات بالحقيقة، ليلمنها الأخريات ببراءة الأعين المبهررة، والاممممممممم، ووضع بباطن أكفهن على الأفواه فعرفت مايعلمه الجميع إلا هي!!..
صرخت فيهم مجددا بأن يأخذوها إلى ولدها ولكنهم لا يملكون النقود فأخرجت من صندوقا قديما "بكشة" وهي لفة قماشية بداخلها ملابس، وفي وسط الملابس ثوب قديم، أخرجت من جيبه وشاح رأس مربوط، أخرجت من داخله منديل مربوط أيضا وبداخله سبيكة ذهب لا تتعدى حجم إصبعين من أصابع كف اليد كانت تخبئها كما تقول "لليوم الأسود".
غادرت إلى صنعاء برفقة أخيها على متن سيارة "دينا" على أن تباع السبيكة ويسدد المبلغ وصلت عند بنت خالتها حيث لا يوجد من أقاربهم في العاصمة إلا هي، وفي اليوم الثاني توجهوا إلى المنطقة التي فيها السكن، فلم يعلموا أين يزن وزملاؤه؟ سألوا الأقسام الأمنية والبحث الجنائي والأمن السياسي و القومي والكل يجيب أنه لا وجود لهذا الاسم!!
نفدت النقود فأرسلت لجارها قناف في القرية، بأن يبيع البقرة ويرسل بثمنها. وظلت تبحث في كل مكان يشار إليها فيه، شهر وشهر آخر حتى نفد مابحوزتها فأرسلت إلى جارها ليبيع الغنم والدجاج، فأرسل ثمنهم بينما الأم ضعفت وأصابها الإرهاق جراء بكائها المتواصل والبحث المستمر وجميع من سمع بقصتها يبكي ويتعاطف عدا الحوثيين لم يسمحوا لها حتى بنظرة واحدة.
حتى انهارت على أحد مكاتبهم وبعد إسعافها تبين أنها مصابة بالسكر وارتفاع ضغط الدم لكن كل هذا لم يشفع لها بأن يسمح لها برؤية ولدها الذي يتهمونه بعضوية خلية داعشية عميلة وخطيرة وبعد أسبوعين أصيبت بجلطة دماغية أقعدتها الفراش ليتم نقلها إلى القرية حيث يهتم بها جيرانها الطيبون فقد أصبحت بلا بقر و لاغنم ولا حتى الدجاج الذي كانت تحصل على البيض منهن بل أصبحت مقعدة تتصدق عليها نساء القرية، البعض بالمأكل، وأخريات بالنظافة وغسيل ملابسها، بينما هي تشتكي إلى خالقها و تجهش بالبكاء عند حلول المساء ليبكي كل من يسمعها حتى الحمام يشاركنها النواح من أمام نافذة غرفتها والأسطح أما جماعة الحوثي فصم بكم لا يعقلون..
وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون .