ليس غرض هذه السطور أن تقلل من الجريمة أو تبرر لها، فأقل ما يقال فيها أنها جريمة بشعة و لا مبرر لها كما وصفها مستوى عال في قيادة المملكة، و ما تريده هذه السطور هو الإشارة إلى العواصم الغربية و كيفية توظيف الأحداث إعلاميا و سياسيا بمعايير ومكاييل تشبع أنانيتها و تخدم مصالحها. و عودة إلى السؤال : ماذا لو أن الصحفي جمال خاشقجي رحمه الله كان أوغنديا أو صوماليا أو أوزبكيا ؟ هل كان العالم، و العالم الغربي بالذات سيتعامل مع القضية بهذه الصورة، أو سيتفاعل بهذا الشكل المتباري في الإثارة، و الممعن في الاستغلال؟ ما يهمنا في هذه السطور كثيرا هو تلك التناولات الإعلامية الغربية، والمواقف السياسية المعلنة لعدد من العواصم الغربية، و التي تحولت معه كل دولة من تلك الدول إلى ما يشبه دور النائحة المستأجرة. فهل هذا التباكي من العواصم الغربية حدَبا على خاشقجي رحمه الله و حزنا عليه، و انتصارا له؟ أم أنها لتجعل من قضيته بابا لابتزاز السعودية و مدخلا لصفقات ظاهرة و خفية ؟ خاصة و قد وجدت كل دولة من تلك الدول فرصتها في ممارسة الضغط و الابتزاز . تجيب على هذا خطابات الرئيس الأمريكي المتكررة، حيث دأب ترامب في الآونة الأخيرة - و قبل مقتل الصحفي الشهير جمال خاشقجي - على إرسال رسائل على الهواء مباشرة تطالب الحكومة السعودية بضرورة دفع إتاوات مالية بحجج زعم الحماية، و مع أنه يتكلم من مربع( الشحت) لكنه غطى ذلك باتخاذ أسلوب العجرفة، فبدا و كأنه يقول: تصدقوا على سيدكم الأمريكي! و العواصم الغربية الأخرى لا يتأتّى لها أن تقول ما يقوله ترامب، لكنها تتحين فرصا و مناسبات، فتلك العواصم تعلم من أين و متى تؤكل الكتف؟ و هي - مما اكتسبته من خبرة في فترتها الاستعمارية الطويلة - نهّازة لمثل هذه الفرص، بل إنها تختلق مثل هذه الفرص، أمَا و قد واتتها هذه الفرصة فقد راحت كل دولة تمارس ضغوطاتها و تعلن عن مواقف سياسة بطريقة أو بأخرى، و الهدف في الأول و الأخير الابتزاز المتدثر بالتباكي تحت عنوان الإنسانية! مرة أخرى ليس هدف هذه السطور التقليل من الجريمة التي طالت الصحفي المظلوم جمال خاشقجي رحمه الله، و إنما هدفها أن نعرف حقيقة الضمير الغربي و معايير صحوته و غفوته، أو مكاييله التي يستخدمها هنا و هناك. ماذا لو أن خاشقجي كان أوغنديا أو من أي دولة أخرى من الدول الفقيرة، أو من تلك الدول التي لا تميل (الحضارة) الاستعمارية إلى ابتزازها واستغلالها، هل كانت تلك العواصم ستتناول هذه القضية بتلك الحدة والإثارة و التركيز و التباكي؟ كلا لن تفعل ! فأوغندا لا تملك ثروة، و ليس لديها براميل نفط، و ليس ثمة خصومة لثقافتها أيضا، و بالتالي فإن أي ابتزاز لن يعطي ثمرة، و ما دام الأمر بلا ثمرة و لا نفط، و لا حاجة في النفس تجاه ثقافة البلد فلتأخذ القضية حجمها الطبيعي زمنا و إثارة و إعلاما! تختزن ذاكرة أحرار العالم مواقف هذه العواصم من الغزو الأمريكي للعراق تحت مبرر زعم أسلحة الدمار الشامل، و هي مزاعم كاذبة اتخذتها واشنطن غطاء لتنفيذ جريمة الغزو الهمجي. قبلها فرض الأمريكان - بتأييد المجتمع الدولي المنافق - حصارا على العراق ذهب ضحيته أكثر من مليون طفل عراقي! المجازر التي يرتكبها الكيان الصهيوني بصفة مستمرة، و منها - للتذكير بنموذج فقط - ما تعرضت له مدينة جنين الفلسطينية، واستخدام واشنطن حق الفيتو لمنع تشكيل لجنة تحقيق دولية حول تلك المجازر المرتكبة بحق الفلسطينيين .. وغير ذلك من جرائم الاغتيالات الفردية و حروب الإبادة الجماعية التي ترتكب في حق الإنسانية في مختلف دول العالم، و لا نجد لهذه المواقف المتشنجة اليوم أثرا يذكر بإنسانية تلك العواصم ! أليس هذا أمرا مريبا و غريبا؟ تعرضت شعوب الربيع العربي لقمع في غاية البشاعة و الدموية، كمجزرة جمعة الكرامة في اليمن مثلا، حيث كان الشهداء في تلك المجزرة ما يزيد عن خمسين شهيدا، و في غير اليمن مثلها أو أشد، فما سمعنا غير كلمات خجولة لا تتفق و أنهار الدماء التي سالت، بخلاف العاطفة المصطنعة التي فاضت اليوم في كل العواصم الغربية ! المؤسف أن النظام العربي غائب بل ميت؛ و لذلك لا يعول عليه في القيام بأي دور عربي موحد، أو وقفة مسؤولة أو مؤثر تجاه أي قضية من القضايا القومية، حتى قضية العرب الأولى(فلسطين) التي ظل العرب يستثمرونها عقودا طويلة، تنكروا لها جميعا! والموقف الشعبي العربي تراجع عما كان عليه من عنفوان، و السبب في ذلك النظام العربي المدعوم من القوى الاستعمارية، فبات النظام العربي نفسه اليوم بلا عمق شعبي، و بلا سند، بعد أن أصبح مكشوف الرأس و غير مسنود الظهر، و السبب الأهم هو القطيعة التي صنعتها الانظمة مع شعوبها و محاربتها الفاجرة للقوى الحية في الأمة، و يبدو أن النظام العربي لم يدرك حتى اليوم أنه الخاسر الأول من هذه القطيعة البائسة!!
أحمد عبدالملك المقرمي
ماذا لو كان أوغنديا؟ 1134