في كل زمان ومكان، يزدحم المشهد الثقافي والاعلامي، والابداعي عموماً، بفئة "الأدعياء" ممن يختلقون هرجاً ومرجاً في هذا المشهد، حتى يختلط الغثّ بالثمين، ويتشابه البقر على أُمّة آمين. ولطالما احتدمت المعارك بين أهل الفكر والإبداع وهذه الفئة القميئة.. ولا تزال محتدمة حتى هذه اللحظة. غير أن معظم ضحاياها كان من المبدعين والمفكرين وليس من الأدعياء. وربما لهذا السبب قال أحدهم (وقد اختلف القوم في هوية أحدهم هذا، أيكون الامام علي أم الامام الشافعي!): "ما جادلتُ عالماً إلاَّ وغلبته.. وما جادلتُ جاهلاً إلاَّ وغلبني". والمسألة جدّ قديمة. ومما وجدت في كتب التراث من العصر العباسي الثاني، كان ثمة وزير من هذه الفئة. وقد هجاه الشاعر الساخر الحسين بن الحجّاج في قصيدة طويلة تقطر سخريةً لاذعة اختار منها هذين البيتين: "قيلَ أن الوزيرَ قد قال شعرا يجمعُ الجهلُ شملهُ ويعُمُّـــــــه ثم أخفاهُ فهو كالهـــــــرِّ يخرا في زوايا البيوتِ ثم يطُمُّــــه". أما الشاعر الأندلسي أبو الحسن البلنسي فقد وجد واحداً من هذا النوع، ممن يجعل الناس يتمنُّون العمى أويحمدون الصمم كلما قرأوا أو سمعوا شيئاً من انتاجه الرثّ والغثّ، فقال فيه: "وكاتبٌ ألفاظهُ وكتبُــــــــه بغيضةٌ انْ خطَّ أو تكلَّمــــــا ترى أُناساً يتمنُّون العمـــى وآخــرون يحمدون الصمما". وكان في زمن الخليفة المتوكل امروءٌ يدعى أسد بن جوهر يدّعي العلم والمعرفة وهو أبعد الناس عن العلم وأفقرهم إلى المعرفة. وكان من سوء حظه أن وقع في قبضة أبي العيناء وهو شاعر أعمى أُشتهر بسخريته اللاذعة ولسانه السليط، فقال فيه: "أوَ ما ترى أسدُ بْن جوهر قد غدا مُتَشبِّهاً بأجِلَّـــــــــةِ الكُتَّـــــــــــــابِ فاذا أتاهُ سائلٌ في حــــــــــــــــاجةٍ ردَّ الجوابَ لهُ بغيـــــــــــــرِ جوابِ وسمعتَ من غثِّ الكلام ورثِّـــــــهِ وقبيـــحهِ باللحــــــنِ والاعــــــرابِ ثَكَلتْكَ أُمُّــــكَ، هَبْكَ من بقر الفــلا ما كنتَ تغلطُ مـــــرةٍ بصـــــوابِ؟". وحكى لي أديب اليمن العظيم عبدالله البردوني واقعةً تعكس إحدى تجلّيات هذا المشهد: في القرن العاشر الهجري (نحو 16 للميلاد) ضجّت مدينة صنعاء بأدعياء الأدب.. وكان من أشهرهم أحد المنتسبين إلى بيت السراجي، الذي ما أن يعثر على قصيدة بديعة حتى "يلطشها" ويدّعي أنه قائلها، فبلغ خبره الشاعر الكبير سعيد السمحي فقال يهجوه: "ثكلْتُكُم بني الآدابِ اِنْ لم ** تبثُّوا في الورى طُرُقَ الأهاجي فليس يُعَدّ في الأدباء من لا ** يبولُ معي على نار السراجي". ولم يَطُل الأمر حتى أجابه شاعر صنعائي ظريف، نسيتُ اسمه، للأسف: "ألا سمعـــــاً لأمركَ يا سعيدٌ ** وطوعــاً ما حَيِيْتَ وما حَيِيْنا أمرتَ بأن نبولَ على السراجي ** فها طوعاً لأمرك قد خَرِيْنا". وكم نحن اليوم في مسيس الحاجة إلى تنفيذ هذا الأمر المُطاع، ليس في وقائع أدعياء الأدب والفن والإبداع فحسب.. إنما في شأن الأدعياء في كل مضمار ومجال، فقد تكاثروا كالبكتيريا!
حسن عبدالوارث
هذه الفئة! 1319