هذا الإحباط والحزن والوجع والفقدان الذي نعيشه مؤشر أننا لازلنا قابعين في الإشكالية، غير قادرين على تجاوزها، لنوجد حلول ناجعة، تضعنا في بداية طريق الخروج من مآسينا وأحزاننا، لنخطو خطواتنا الأولى نحو مستقبل آمن ومستقر، فيه الناس سعداء متعايشين متوافقين في وطن يجمعهم. مؤشر تجاوز الماضي والولوج للمستقبل له أدواته، التي بضرورة لا تحمل عبء الماضي ولا ثاراته وأحقاده وانتقاماته، أدوات طاهر من كل عفن ذلك الماضي، أدوات بنا وتنمية وإعمار، أدوات استقرار وتوافق وتصالح وتسامح، وكل هذا لا يحتاج لأدوات عنف، بل يحتاج لعقلانية ووسطية ووطنية، لا يحتاج لعصبية طائفية مناطقية ايدلوجية تؤجج نزعات سلبية مدمرة. لدينا أدوات للحل، وأدوات الإشكالية، والفارق بينهما دقيق جداً قد لا يدركه الكثير، وهو يمثل الحد الفاصل بين العيش في المشكلة والانطلاق نحو الحل. هناك فرق بين من يقود عملية عسكرية، أو صراعاً أيدلوجياً أو طائفياً أو مناطقياً، وبين من يقود عملية سياسية توافقية، بين من يبحث عن حل ومن يبحث عن انتقام وإشباع رغباته من الثأر، وبين من أنهكته الصراعات ووصل لقناعة على أن يتعايش مع المختلف والاختلاف بصورة إيجابية، وهناك فرق. فرق بين العسكري والسياسي، عندنا العسكري دون مقدمات يمكن أن يكون سياسي، يدير عملية سياسية وبالضروري بعقليته عسكرية، أو نجد طائفياً ومناطقياً يحدثنا عن الدولة المدنية وهي لا تتوافق وأفكاره وقناعاته، وبالضرورة - أيضاً - بعقليته المتحجرة الرافضة للتوافق، هؤلاء هم من يؤججون الإشكاليات ويعيدون إنتاج مآسينا بصورة أكثر صلافة وعنجهية، ويغرقوننا في وحل الانتقام. البحث عن الحل يحتاج دراسة علمية مستفيضة لجذر المشكلة، لتحل الإشكالية جذرياً، إشكاليتنا منذ عقود هو الاستفراد بالسلطة والثروة، وعدم قبول الآخر كشريك مهم وفاعل، شراكة مضبوطة بنظام وقانون يحكمها، من يتصدر المشهد، يفتقد للوعي التوافقي، وعي التعايش وقبول الآخر والديمقراطية والمواطنة، وعياً مسلحاً بالإيمان بالقيم التي تستقيم مع الحل المنشود. من لا يملك هذا الوعي ولا يؤمن بتلك القيم لا يمكن أن ينتج حلاً، بل يؤجج من الإشكاليات ويعقدها ويمارس الانتقام، كما هو حاصل اليوم. أدوات تفرز كل ما فيها للواقع، خطابها تحريضي استفزازي، تخوين اتهام، وفتاوى القتل والتصفية الجسدية خارج اطار النظام والقانون، في مبادرة خطيرة تجاوزت كل الخطوط القانونية والشرعية، في فيديوهات مناطقية وطائفية تحرض على قتل الآخر، دون أن تحرك ضمير وإنسانية البعض، في تعبئة سلبية للواقع طائفياً مناطقياً وايدلوجياً، تعبئة للعنف والعنف المضاد، وبعضهم يتفاخر بهذه الفيديوهات بشكل سافر ومفضوح، معلناً عن نفسه وشخصيته متحديا المجتمع والنظام والقانون، ويؤكدها بتغريدات ومنشورات بتواطؤ من قبل أطراف سياسية تدفع نحو ذلك. أدوات الحل يجب أن تحمل وعي التعايش وقبول الآخر، والتسامح والتصالح مع الذات قبل الآخر، مشروع دولة ضامنة للمواطنة والحريات والعدالة، وإيمان بحق الآخر المكفول، قانوناً ودستوراً وشرعاً. من هنا ندافع عن الآخر لندافع عن حقنا في الحرية والعدالة والمساواة، وهي قيم ومبادئ تضبط العلاقة بالآخر وتؤشر لمسار المستقبل، لا نقبل أي مبرر لإسقاط إنسانيتنا وقيمنا من أجل سلطة أو مشروع فيه الآخر مقهور مظلوم مضطهد محروم، هنا تتحول القضية لمجرد انتقام من الآخر، وهذا ما يتنافى مع نضالنا الإنساني على مر السنوات، بل يتنافى مع قيم التعايش والسلام والحب والتسامح الذي فيه حقوق الآخر مكفولة ومصانة، وحريته قبل حريتنا، وعلاقته بنا مضبوطة بنظام وقانون يحكمها. ما نريده اليوم هو تفعيل دور القضاء والنيابة، وترسيخ دور النظام والقانون ليحكم بين الشركاء في وطن، ليدين المدان ويبرء البريء، بعيدا الاتهامات الكيدية والمناكفة، وهذا يحتاج أدوات تؤمن إيماناً قاطعاً بقيم التعايش والسلام والديمقراطية والمواطنة، بل تحمل وعياً وقناعات كافية للدفاع المستميث عن تلك القيم ولا يمكن التنازل عنها مهما كانت المبررات، وجيشاً وأمناً وطنياً صرفاً يحتكم لدولة بشخصيتها الاعتبارية ويحمي العقد القانوني والدستوري الذي ينظم العلاقات ولا يسمح بالخروج عنه مهما كانت المبررات.. هنا أبشروا بحل ناجع لوطن سيتعافى وينهض من وسط الركام، لينافس الأمم بقوة الإرادة وصلابة أبنائه في إيجاد الحلول التي ترضي الجميع بعيد عن صلف وعنجهية العنف والعقلية المتحجرة.
أحمد ناصر حميدان
الوطن بين الإشكالية والحل 1280