أمام نخب الوعي، أمام المثقفين ورجال العلم, في بلدي اليوم جنوباً وشمالاً أسئلة في غاية الأهمية، الإجابة عليها ستسهم في تصحيح إدارة المشهد ومسار التحوّل. أين هي الاحزاب السياسية؟ كأدوات أساسية وأركان مهمة في التنمية الفكرية والسياسية، كاصطفاف وتكتلات فكرية تذوب فيها الطوائف والمناطق والجهوية؟. حالة الضعف السياسي اليوم، هو غياب أدواته، ليتمكن منه اصطفاف وتكتل لا يبني دولة، ولا يسهم في تحوّل يلبي تطلعات الأمة. الاصطفاف الجهوي كطوائف ومناطق وعقائد مذهبية، يشكل أدوات تنمّي فينا الخصومة الفاجرة وتزيد من حجم التناحر والصراعات، اليوم تتمكن تلك الأدوات منّا بالتسليح والعسكرة ( مليشيا)، لا مجال معها في حوار الأفكار والرؤى، ومطالبتها بالالتزام بالقيم والمبادئ، والنظام والقانون، ولديها من المبررات السخيفة التي تعطيها الحق في أن تمارس كل انتهاكاتها وتفرض واقعها. أُريد لنا أن نفقد أهم ركن من أركان التحوّل السياسي والاجتماعي، الأفكار والرؤى التي تنهض بالأمم والشعوب، وأريد لنا أن نعاق في تغيير حقيقي لما نصبو إليه من تحوّل وتطلع وآمال، وأُريد لنا أن نبقى مسلوبي القرار والسيادة، ونكون تحت الطاعة العمياء، كحديقة خلفية لا حول لها ولا قوة، تتسول المعونات وسبل الحياة، عاجزين عن استثمار ما وهبه الله لنا من موقع استراتيجي وتضاريس ربانية، وأرض حبلى بالثروة والنهضة، محاولين- بكل ما يؤتون من قوة- منع استثمار تلك الثروة، بقدر ما هو مسموح بحيث لا ننهض ولا نتطور، ولا نفكر يوماً أن نكون مثل خلق الله المحترمين في هذا العالم والمحيط المتوحش الذي يبني أسواراً على حديقته الخلفية ويقاتل من أجل إبقائها كمحمية تاريخية لا يمسها التغيير الحضري، خوفاً من العدوى، عدوى الديمقراطية والثورة الشعبية، وحق تقرير المصير والسيادة. لم تكن تلك الإرادة أن تتحقق لو لم تجد أدواتها الفاعلة منا، ولو لم تجد فراغاً تتسلل منه لتوحي أنها إرادة وطنية وحق، لتبدأ تنخر في قضايانا الوطنية والثوابت، ويبدأ الحقن الطائفي والمناطقي والجهوي، وتبدأ عملية تجريد عدالة قضايانا وخطابنا واختياراتنا، لنجعل الوطن مجرد أرض متنازع عليها. أي فكرة أو مشروع لا يرتكز على العدالة الاجتماعية، لا يعد مشروعاً وطنياً، بل مشروعاً سيجد من يختلف معه، ومن ينشق عنه، ومن يعارضه، مشروع تفتيت وتمزيق وشتات، مشروعاً لا يقبله ضمير حي ولا غيرة لوطن ولا عزة لكرامة، مشروعاً فاقداً للقيم والمبادئ الإنسانية التي تبنى عليها نضالات الأمم المقهورة. باختصار نحن في هذا البلد العريق (اليمن) في محنة ثقافية وفكرية وأزمة وعي، وجد الجهل والتخلف والعصبية طريقهما في هذه الأزمة ليتمكن منا، ووجد الطامعون فرصتهم للعبث، ووجد المرتزقة مجالاً لارتزاقهم، والعنف مجالاً ليمارس هويته في القتل والدمار والتخريب، ووجد العفن بيئة مثلى لينمو وينهش أعراضنا وعقول أبنائنا وضمير المة ووعيها. اليوم يُهدد كل وعي وكل عقل وكل ضمير يعبّر عن رأي وعن فكرة وعن منطق، واقع جعل ضمير الأمة في امتحان حقيقي، في أن يكون أو لا يكون، يواجه ضغوطات، انتهاكات، ومداهمات المساكن وانتهاك حرمات البيوت، ضغوطات الشارع العام المتعصب الذي لا يحترم مقدار الوعي والرأي والحق، ضغوطات الأهل والأولاد والأسرة والزملاء والأصدقاء، ضغوطات الآلة العنيفة التي تتصدى للرأي الآخر، والتي تعبّر عن تخلّف وتعصّب وعنف من يدير المشهد، آلة لا تحترم العقل ومنطق الأمور، ولا تعترف بالعقد الاجتماعي الضابط للعلاقات والتنوع والطيف السياسي والاجتماعي، ولا ترعى فسيفساء التعايش. المؤسف أن يحاكم الجلاد نوايا وضمائر الناس، وتجد خذلان من حولها، تجد استصغاراً وتقزيماً للفكرة التي تتبنّاها، تجد إحباطاً شديداً ودعوة للاستسلام بعذر النجاة، خذلاناً يردد أنت بلا قبيلة تحميك، وحزبك لم يعد يهتم لفكرتك فقد غرق كغيره بالوحل، أنت تواجه آلة متخلفة ومتعصبة ومتهورة لا تحترم عقلا ولا منطقاً، من تحدث يا من تعوم عكس التيار شديد الهيجان..؟ ستغرق كما غرق غيرك، تحطيم للمعنويات، وحقن بالرعب والخوف على مسؤوليات من تحب ومن ترعى ومن تهتم، في تهديد للحياة وما تملك وتعز، نفسك بالدنيا كل مقسوم لك ستلقاه، لترحل بشرف خيراً من البقاء فيها مهان.
أحمد ناصر حميدان
محاكاة الضمير 1235