لا توجد أمة وعلى مر التاريخ إلا وشهدت صراعات.. خير هذه الأمم ممن تمخضت صراعاتها إيجابية في بنية المجتمع ونهضته (المادة الخام الأساسية للحياة )، مخاض يصنع وعيا، قادرا على تجاوز حالة الصراع السلبي، ليصنع توافقا على أسس ثوابت وطنية وإنسانية لبناء سلام دائم.
كل الأمم المحترمة اليوم، عاشت حلة صراع سلبي أشد ضراوة من صراعنا اليوم، وتجاوزته باحترامها لبعض فاحترمت.
عدم احترامنا لأنفسنا، يغرقنا في واقع من الفتن والصراعات السلبية المدمرة، في صراعات ثنائية من المصالح المتعارضة، يخلق حالة تعذر أي اتفاق وتوافق، يصعب بناء دولة ضامنة ونظام وقانون ضابط، فيتعذر صنع سلام دائم.
اليوم نتفق جميعاً على لعن الحكومة، ونحملها كل مشاكلنا وإخفاقاتنا، كل مآسينا ومظلوميتنا وهدر حقوقنا، كل منّا لديه كشف حساب يطالب الدولة بدفعه آجلا أم عاجلاً، فنوجه سهامنا لصدر الدولة دون رحمة وشفقه لضعفها.
هذه ثقافة اكتسبت على مر المراحل، نابعة من نفس أنانية، ينصب تفكيرها في الحاجات والرغبات الذاتية أي بالحقوق، دون أبسط تفكير بالواجبات، واجب الفرد اتجاه مجتمعه وواجب المجتمع اتجاه الأمة، والمسئولية الملقاة على الجميع.
الحكومة التي نلعنها هي كيان وظيفي يتكون من مجموعة من الأفراد يمارسون نشاطهم على إقليم جغرافي محدد ويخضعون لنظام سياسي معين متفق عليه فيما بينهم يتولى شؤون الدولة، وتشرف الدولة على أنشطة سياسية واقتصادية واجتماعية الذي يهدف إلى تقدمها وازدهارها وتحسين مستوى حياة الأفراد فيها، عمل الحكومة وعلاقاتها بالناس منضبط بدستور وقانون، ولها مؤسسات تراقب وتحاسب وتضبط عملها.
هذه المسائل تحتاج لوعي مجتمعي، يصنع ثقافة اجتماعية تفرض واقعا اجتماعيا وسياسيا، تجعل من الوظيفة الحكومية مسئولية، تكليف لا تشريف، مغرما لا مغنما، نحن بوعينا قادرون على ان نصنع حالة رفض عامة للفساد، وعدم التعامل معه وتبريره، وعدم استغلاله استغلالا سياسيا أيدلوجيا في صراعاتنا الثنائية التي هي جزء من هذا الفساد، ما لم تكن هي صانعة ذلك الفساد.
قبل أن نطالب الحكومة، علينا أن نطالب أنفسنا أن نكون رافدا إيجابيا لهذه الحكومة، ومراقبا ايجابيا لعملها، ومدافعا شرسا عنها من كل القوى التي تستغلها، أو تحاول إضعافها والنيل منها.
المؤسف هو ما يتم من إضعاف متعمد للحكومة، بل إهانتها، وكم هي الإهانة التي تتعرض لها حكومتنا من قبل سياسي الغفلة اليوم، والكيانات الطارئة وهي ترفع البندقية في وجهها، وكل هؤلاء الشواذ أعجز من أن يكونوا في مستوى المسئولية الدستورية والقانونية المناطة بهم.
تهان الحكومة في مجتمع غير منضبط بالنظم والقوانين، فلا تجد لقراراتها تنفيذاً على الواقع، أي لا تجد وعياً مجتمعياً ينفذ ما هو مطلوب منه ليحصل ما له، وعي يعرف ما له وما عليه.
أكبر إهانة تعرضت لها حكومتنا، وهي تواجه مسلحين خارج مؤسساتها، تمنعها من تحصيل إيراداتها العامة، لتنظم موازنة عامة، وتدير البلد بمؤسسات سلطة عامة، أكبر إهانة فيما يوجه لها من لائحة اتهام بالفساد والإرهاب، والسيطرة عليها من قبل أحزاب سياسية، كمناكفة سياسية في صراع سياسي عطل عمل الدولة ونظامها والدستور والقوانين الضابطة للحياة.
لو انضبطت تلك القوى دستوريا وقانونيا، لحققت هدفاً نبيلاً هو تصحيح واقع الحكومة، بالدستور والقانون، وتفعيل مؤسسات الضبط والربط والحساب والعقاب والثواب، وتقديم استدلالات ووثائق قضايا الفساد والفاسدين، لكانت حفظت للحكومة كرامتها والوطن عدم الانزلاق في حالة فراغ حكومي، لكن ما حدث هو مخطط يهدف بالأساس لإهانة الدولة وحكومتها وإضعافها لاستغلالها اليوم.
النتيجة كانت واضحة، لم يتمكن البديل أن يملأ الفراغ الحكومي، هو أضعف من أن يكون ولو شبه دولة، كان محرجاً أمام استحقاقات عجز عن الإيفاء بها، وعاد ليبرر فشله بالدولة التي طردها، والأكثر أسفا ان تنطلي مثل هذه التبريرات على البعض، في استعباط للعقول، قزمتهم أمام الناس وجعلت منهم لا شيء.
استعباط ولّد حالة إحباط للناس، وفقدان أمل التغيير، حينما وجد دولته تعود وهي في وضع لا تحسد عليه، مثقلة بتراكمات الانفلات والفراغ الحكومي، ومؤسسات مدمرة ومنهوبة، جرائم وبسط ونهب وانتهاك وأنين عدن، وعادت تحت رحمة من لم يرحموها سابقاً ولن يرحموها حاليا، تحت من حطم معنويتها سابقاً، ولن يكون لها دافعاً، بل مستغلاً ومبتزاً، ولن تكون دولة ذات سيادة ولا إرادة، بل موظفين يؤدون دور معين في صراع طويل الأمد، يؤجل الصراع لحين غفلة ليكون أكثر تفجيرا وتدميراً وتعطيلاً لحقوق الناس ومستحقاتهم، والله يستر على القادم.