الثورات الحقيقية النابعة من وجدان الناس وأعماق المجتمعات قد تنحني أو تتعثر، لكنها لا تتلاشى ولا تنكسر .
الثورة هي لحظة بركانية انفجارية و تحتاج الى أكثر هو القوة المعنوية، وصلابة الإرادة، والإيمان الراسخ بعدالة قضيتها، والإصرار على النصر مهما تكن التضحيات
الثورة صراع وجود لا صراع حدود، وحركة مغالبة لا مطالبة .
يقال دائما إن "السياسة هي فنُّ تحقيق الممكن"، ويمكننا القول إن "الثورة هي فنُّ تحقيق المستحيل". فلحظة الثورة ليست لحظة عادية في الزمن السياسي، ولا تنطبق عليها قوانين السياسة الرتيبة في الظروف العادية، بل هي لحظة بركانية انفجارية، تحرّر طاقات ما كانت لتتحرر في ظروف أخرى، وتشحذ همما وعزائم ما كانت لتنشثق444حد في ظروف أخرى، وتُخرج من المجتمع أجمل ما فيه وأنبله وأفضله. وتحتاج الثورة إلى الحاسَّة الإستراتيجية، والتخطيط المحكم، والخيال السياسي، شأنها شأن أي ممارسة سياسية رشيدة، لكن ما تحتاج إليه أكثر هو القوة المعنوية، وصلابة الإرادة، والإيمان الراسخ بعدالة قضيتها، والإصرار على النصر مهما تكن التضحيات، لأن الثورة صراع وجود لا صراع حدود، وحركة مغالبة لا مطالبة .
قائد قوات الثورة الأميركية الجنرال جورج واشنطن كان ذا عزيمة فولاذية، وإيمان لا يتزعزع بعدالة قضيته، فلم ييأس، ولم تلن له قناة، بل ظل متشبثا بالأمل، مراهنا على المستقبل .
في ختام عام 1776 كان عمر الجمهورية الأميركية الوليدة 6 أشهر فقط، إذ أعلن الثوار الأميركيون منتصف ذلك العام (يوم 4 يوليو/تموز 1776) الاستقلال عن التاج البريطاني، وتأسيس جمهورية اتحادية من المستعمرات البريطانية الـ13 على ساحل القارة الأميركية. وقد دخلت هذه الأمة الجديدة الهشّة البناء معركة غير متكافئة مع الجيش الإمبراطوري البريطاني، الذي كان يومذاك أقوى جيوش العالم، وأحسنها تنظيما وانضباطا، وأفضلها تقنية عسكرية .
وبعد 6 أشهر من القتال أصبحت قوات الثورة الأميركية التي يقودها الجنرال جورج واشنطن (1732-1799) في حالة يرثى لها؛ فقد تعرضت تلك القوات الملفَّقة من مجموعة مليشيات من الولايات الأميركية الـ13 لهزائم منكرة على أيدي الجيش البريطاني، وأدّت هذه الهزائم المتتالية إلى تراجع القوة المعنوية لدى قوات الثورة، وفقدان الجماهير الأميركية أمل النجاح في الثورة، وتردُّد الولايات في إرسال المتطوعين والأموال لمساندة القوات الثورية .
كان كل شيء يدفع إلى اليأس ويقود إلى الاستسلام؛ فقد فقدت الثورة الأميركية مدينة نيويورك، وقرر الكونغرس الأميركي الهرب من مدينة فيلادلفيا، عاصمة الثوة والجمهورية الأميركية الوليدة، والانتقال إلى مدينة بالتيمور، خوفا من اجتياح الجيش البريطاني مدينة فيلادلفيا. وفي الهزائم المتلاحقة فقد الجنرال واشنطن جلّ قواته قتلًا، وأسْرًا، وهربًا من الخدمة، واستسلاما للقوات البريطانية المهاجمة. ولم تكن قوات الجنرال واشنطن جيشا بمعنى الكلمة، بل كانت في معظمها أشتاتا من الفصائل المقاتلة والمليشيات التي جاءت كل منها من ولاية، ولم يكن يربط بينها رابط قانوني واضح، ولا تراتبية عسكرية صارمة، ولا تلقَّى أي منها تدريبا عسكريا مهنيا، من النوع الذي تلقاه الجيش البريطاني الذي تقاتله .
لكن قائد قوات الثورة الأميركية الجنرال جورج واشنطن كان ذا عزيمة فولاذية، وإيمان لا يتزعزع بعدالة قضيته، فلم ييأس، ولم تلن له قناة، بل ظلّ متشبثا بالأمل، مراهنا على المستقبل. وبدأ واشنطن التفكير في أي طريقة لتحقيق انتصار جديد، يُعيد للثورة الأميركية رونقها وحيويتها، وثقة الشعب الأميركي فيها، فقرر أن يهاجم قلعة (ترينتون) التي كانت تؤوي قوة ضاربة من المرتزقة الألمان الأشدّاء الذين جندتهم بريطانيا ليقاتلوا معها القوات الثورية المتمردة على التاج البريطاني .
كان الاستيلاء على قلعة (ترينتون) هو الأمل الوحيد للثورة الأميركية للانبعاث من حالتها المزرية، ففي القلعة كمٌّ وافرٌ من العتاد والذخيرة والغذاء والكساء، تحتاج إليه قوات الجنرال واشنطن للبقاء على قيد الحياة، وتجنُّب الهزيمة النهائية. لكن المهمة كانت عسيرة للغاية، فقد كان يفصل بين القلعة وجيش الثورة نهر (ديلاوير)، وكان النهر شبه متجمّد في عزّ الشتاء، ويتعين على الجنرال واشنطن أن يعبره بقواته، أثناء عاصفة ثلجية، في مراكب متهالكة، وفي الهزيع الأخير من الليل، لكي يستطيع مباغتة عدوه. فلا أمل له في النصر - بسبب اختلال موازين القوة- إلا بأخذ عدوّه على حين غرَّة .
تخلَّى واشنطن عن أسرته وضيعته الواسعة وأمواله الطائلة، ليقود قوات الثورة الأميركية في الأدغال والقيعان والثلوج. وكانت قيادته العسكرية والسياسية من نمط القيادة المرنة الملهِمة المتفهّمة، إذ هو يدرك أنه يقود جيشا من المتطوعة المتحمسين، لا المرتزقة الأجراء .
وقد وصف المؤرخ (ديفيد فيشر) في كتابه (عبور واشنطن) حالة واشنطن وجيش الثورة الأميركية في تلك اللحظة الحرجة من عمر الثورة الأميركية، فقال "فقَد الجنرال واشنطن في 12 أسبوعا مساحة واسعة من 3 ولايات، و90% من القوات التي يقودها.. وعاد آلاف الأميركيين إلى الولاء للتاج البريطاني، بمن فيهم أحد الموقِّعين على إعلان الاستقلال، وأصيب كثير من أنصار الثورة باليأس والفزع ".
لكن القوة المعنوية والمبادرة الإستراتيجية أنقذتا الثورة الأميركية في النهاية. يقول فيشر "أسَّس الأميركيون أمَّة من غير دولة، وجيشا من غير انضباط.. لكن كان للأميركيين مَواطن قوَّتهم؛ فقضيتهم عادلة، وهم يقاتلون على أرض يعرفونها حقَّ المعرفة، وكانوا مجتمعا متديِّنا، يساعده تديُّنه على الثبات، وعلى تحمُّل مصاعب الصراع". وكانت قيادة جورج واشنطن خير مُلهم للثوار الأميركيين في ساعة العسرة، لأنها قدَّمت لهم الأسوة الحسنة في الصلابة والتضحية .
فقد تخلَّى واشنطن عن أسرته وضيعته الواسعة وأمواله الطائلة، ليقود قوات الثورة الأميركية في الأدغال والقيعان والثلوج. وكانت قيادته العسكرية والسياسية من نمط القيادة المرنة الملهِمة المتفهّمة، إذ هو يدرك أنه يقود جيشا من المتطوعة المتحمسين، لا المرتزقة الأجراء. يقول فيشر "كان واشنطن في قلب كل القرارات، وكان دائما يستمع، ويُلهم، ويقود. وقلما يَطْلب، أو يأمر، أو يُكرِه ."
وقد انتصرت قوات الثورة الأميركية في (ترينتون) نصرا مؤزَّرا في هجوم مباغت صبيحة يوم 26 ديسمبر/كانون الأول 1776، ودخلت معركة (ترينتون) التاريخ من أوسع أبوابه، باعتبارها المعركة التي غيَّرت مسار الثورة الأميركية، والتاريخ الأميركي والعالمي، ونقلت الثورة الأميركية من مضايق اليأس إلى آفاق الأمل، وأعادت إليها قوَّتها وفتوَّتها، وكسبتْ لها دعم بعض القوى الأوروبية المهمة. لقد سيطر واشنطن على القلعة، وأوسع العدوَّ أسرا وقتلا، ولم يفقد سوى مقاتليْن اثنين تجمَّدا من البرد في تلك الليلة الليلاء .
خصص الأميركيون عددا وافرا من الوثائقيات التاريخية والأعمال الدرامية لتخليد معركة (ترينتون)، ومن هذه الأعمال الفيلم التاريخي "العبور " (The Crossing). وقد كانت أهم شخصيتين في المعركة -وفي الفيلم أيضا- هما جورج واشنطن والعقيد جون غلوفر (1732-1797)، أحد ضباطه الشجعان الأذكياء، وهو الذي أنقذ قوات الثورة الأميركية قبل ذلك من الإبادة بعد الهزيمة المهينة في معركة بروكينز بولاية نيويورك، حين نقل تلك القوات في عَماية الضباب إلى جزيرة مانهاتن .
يصوّر فيلم (العبور) ما افتتحنا به هذا المقال من الفرق بين الثورة وغيرها من أنماط السياسة الرتيبة. فقد ظهر في الفيلم الجنرال هوراسيو غيتس (1727-1806) المستأسِر للتفكير التقليدي في السياسة والحرب، وهو ينصح واشنطن بالاستسلام قائلا "استسلم، فهذه الثورة قد انتهت"! ويصف مقاتلي الثورة -باستعلاءِ وبلادة المهنيين عديمي الخيال الإبداعي- بأنهم حفنة من الهواة، وليسوا جنودا محترفين. لكن واشنطن ردّ بطرد الجنرال (غيتس) من معسكره فورا، خوفا على قواته من انتشار هذه الروح الانهزامية .
وفي مشهد آخر معبّر، يسأل الجنرال واشنطن العقيد جون غلوفر "هل تستطيع عبور النهر بقواتنا؟"، فيجيبه غلوفر "لا أستطيع، لكني سأفعل". فيسأله واشنطن "ما معنى ذلك؟"، فيجيب غلوفر "معناه أن العملية كلها جنونية، لكنك إذا صمَّمت على الذهاب إلى الجحيم، فأصحبك إليها". وهنا يظهر درسان للاعتبار من تاريخ الثورات، وهما: أن الثورة ليست فنَّ تحقيق الممكن، بل هي فنُّ تحقيق المستحيل، والثاني أن الثورة تحتاج إلى القيادة الملهِمة التي تكسب ثقة الثوار بصلابتها وتضحيتها وطاقتها الأخلاقية، ومبادرتها الإستراتيجية القادرة على الاستفادة من كل باب يُفتح، أو فرصة تَسنح .
مهما تفعل الثورة المضادة من تأجيل انتصار الثورات، أو رفع ثمنها على الشعوب، فإن عبرة التاريخ تدل على أن الثورات الحقيقية النابعة من وجدان الناس وأعماق المجتمعات قد تنحني أو تتعثر، لكنها لا تتلاشى ولا تنكسر .
وكان من ثمار النصر المؤزَّر في (ترينتون) أن تدفق المتطوعون الأميركيون للقتال في جيش الثورة، حتى تضاعف عدده في مدة وجيزة، ثم تدفق الدعم المالي والعسكري الفرنسي للثورة. وفرنسا هي العدو التقليدي يومذاك لبريطانيا، وكان قلبها مع الثورة الأميركية منذ البداية، لكنها لم تكن واثقة من فرص انتصارها، ولا كانت تريد المغامرة في معركة خاسرة، لكن النصر في (ترينتون) غيَّـر التفكير الفرنسي تجاه الثورة الأميركية، فتحررت فرنسا من التردد في دعمها، وقررت المراهنة عليها في الانتقام من بريطانيا التي هزمت فرنسا وأهانتها قبل ذلك ببضع سنين في حرب الأعوام السبعة (1756-1763).
في الإعداد لمعركة (ترينتون) كان واضحا للجنرال واشنطن، وللعقيد غلوفر، أن الثورة ليست فنَّ تحقيق الممكن، بل هي فنُّ تحقيق المستحيل. وبعد 10 سنين من اندلاع ثورات الربيع العربي، لا تزال الحرب النفسية على أشدّها ضد الثوار العرب، والسعي الحثيث من الثورة المضادة العربية وظهيرها الإقليمي والدولي لزرع اليأس في نفوس الثوار، وإقناط الشعوب العربية من أي أفق للتغيير. لكن عبرة التاريخ من معركة (ترينتون) تعلّمنا أن هذه اللحظة التي تتكثَّف فيها الحرب النفسية، وتتراكم التراجعات الميدانية، هي اللحظة التي يجب فيها التمسك بالحق، والأمل في المستقبل. فألدُّ أعداء الثورات العربية اليوم -شأنها شأن كل الثورات العظيمة- هو ثقافة اليأس والجبرية، وضعف الأمل في المستقبل، والانشغال بجلد الذات عن مجالدة المستبدين، والسلبية بدعوى الحياد .
وقد يكون لزاما على الشعوب الثائرة اليوم أن ترشِّد ثوراتها، وتستوعب عبرة تاريخ الثورات العالمية قبل أن تبلغ الغاية. لكن مهما تفعل الثورة المضادة من تأجيل انتصار الثورات، أو رفع ثمنها على الشعوب، فإن عبرة التاريخ تدل على أن الثورات الحقيقية النابعة من وجدان الناس وأعماق المجتمعات قد تنحني أو تتعثر، لكنها لا تتلاشى ولا تنكسر. فالربيع العربي من نوع الربيع المتجدد الذي تغنَّى به شاعر تونس -مهد الربيع العربي- أبو القاسم الشابي، في أبيات من قصيدته "الصباح الجديد" يقول فيها :
إن سحر الحياه / خالــد لا يــــــــزول
فعلام الشَّكـــــــــاه / من ظلام يحول
ثم يأتي الصباح / وتمر الفــــصول
سوف يأتي ربيع / إن تقضَّى ربيع