يحفل التاريخ الإسلامي لليمن بنماذج مشوهة من الدويلات التي ظهرت ككيانات متصارعة، وكان محركها الأساس إما نزعة حاكم أو والٍ ذي شخصية قوية للاستقلال عن الدولة المركزية في بغداد، أو دعوة دينية انعزالية أقلوية وجدت في البيئة الجغرافية اليمنية الجبلية ملاذاً آمناً.
الدعوة الزيدية واحدة من هذه النزعات الانعزالية التي لاذت باليمن في محاولة لإعادة إحياء دولة مذهبية، ظهرت في منطقة طبرستان جنوب بحر قزوين أو بحر الخزر، سنة 250 هجرية على يد الحسن الزيدي، وحينها كان يحيى ابن الحسين (220هـ- 298هـ/ 835م- 911م) الذي أسس الدعوة الزيدية في اليمن لا يزال في الخامسة من عمره.
وهذا الرجل قدم إلى اليمن وأطلق على نفسه لقب الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين، بعد انحسار دولة طبرستان الزيدية، التي ظلت تصارع الحياة في شمال إيران لنحو قرنين قبل أن تنقرض بشكل كامل، وما أن استقر في صعدة شمال اليمن حتى أطلق دعوة لأتباع المذهب الزيدي في إيران وفي أماكن أخرى للهجرة إلى اليمن الذي أطلق عليه الهادي لقب دار الهجرة.
على هامش الدولة العباسية كان هؤلاء يقيمون دعوتهم ودولتهم، ثم يدخلون على الفور في صراع مع المجتمع سرعان ما يتسبب في انحسار الدعوة وسقوط الدولة حتى تتسنى الفرصة؛ ليظهر إمام وربما أكثر من إمام في وقت واحد للمجاهرة بادعاء أحقية الإمامة، حيث كانت تدور حول هذه الادعاءات صراعات دموية شرسة دفع أبناء طبرستان في إيران وأبناء اليمن ثمنها من دمائهم ووجودهم.
ثمة حالة استثنائية في اليمن في ما يخص الدعوة الزيدية الشيعية، فقد استطاع المذهب الزيدي أن يبقى في الأجزاء الجبلية المنعزلة من شمال غرب اليمن، رغم الفترات الطويلة من غياب الأئمة الذين كانوا يختفون تماماً في ظل الدول اليمنية القوية، التي كانت تعبر عن الهوية الشاملة لليمن، وهو ما يفند أقاويل عن حكم الأئمة الزيدية لليمن لأكثر من ألف عام.
ويعزى ذلك إلى الصيغة الفريدة من التعايش مع الأخطار، حيث كان يتولى أحد رموز المذهب من أحفاد الهادي مهمة القيام بأمر الدعوة سراً تحت مسميات وألقاب منها "قرين القرآن" و"علم الهدى"، ويظل يحصّل الزكوات من أتباع المذهب، استغلالاً للقاعدة الفقهية التي يكرسها أئمة هذا المذهب والتي تربط صحة إقامة العبادات والشعائر الأساسية من صلوات وزكاة وصيام وغيرها وقبولها شرعاً بالإمام ووصايته. وهذه القاعدة تم إسقاطها عملياً من قبل أتباع المذهب الجمهوريين في شمال البلاد بعد ثورة 26 أيلول/ سبتمبر 1962.
الذي دفعني للحديث عن هذا الموضوع، هو مسلسل كرتوني تبثه قناة المسيرة التابعة للحوثيين خلال شهر رمضان المبارك، وهو موجه للأطفال حصرياً، ويحكي سيرة أول إمام زيدي في اليمن، وسط ادعاءات كاذبة عن دوره في إنقاذ اليمنيين من مظالم الدولتين الإسلاميتين الكبيرتين: الدولة الأموية والدولة العباسية.
لم يجد قادة جماعة الحوثي وهم نماذج حديثة من التعصب السلالي المذهبي، سوى الأطفال لتمرير الأكاذيب حول سيرة أول أئمتهم، الذي يشهد التخلف الكبير لمناطق نفوذ مذهبه كم كان سبباً في بقاء جزء مهم من اليمن خارج التاريخ، فلم يورث فقهاً ولا علماً ولا إرثاً حضارياً مادياً سوى ضريح يتيم له في مدينة صعدة المنكوبة، ولم يترك لورثته إرثاً مادياً أو ثقافياً سوى مسجد قبة المهدي عباس في الضفة الغربية لمجرى السيل الذي يشق صنعاء القديمة، فقد أقيم مسجد القبة هذا، بخبرات البنائين (الأسطوات) الذين تأثروا بالخبرات التركية وبالنمط المعماري للعهد العثماني.
ما يجري في اليمن اليوم هو محاولة مدعومة من إيران لإعادة تعميم المذهب الزيدي بقوة السلاح، وباستخدام كل أشكال وأدوات القمع والبطش.
يجري ذلك بشكل حرفي في مناطق انحسار المذهب الزيدي في شمال غرب البلاد، وتعميم النموذج الزيدي كثقافة يراد لها أن تسود في اليمن بالأدوات نفسها، وهو أمر يفسر كيف احتفت إيران التي ترعى هذا النموذج الجديد بما أسمتها الثورة الإسلامية في اليمن، في صيف عام 2014، والتي قالت وسائل إعلام حكومية إيرانية وقتها، إن الثورة التي ينفذها الحوثيون تستعيد الهوية الثقافية لليمن.
ما كان لجماعة الحوثي أن تصل إلى هذا المستوى من النفوذ في العاصمة صنعاء لولا الدور الذي أداه الرئيس السابق علي عبد الله صالح بعد الثورة الشبابية الشعبية التي أطاحت به عام 2011.
بعد تعرضه لمحاولة اغتيال مميتة بانفجار دار الرئاسة في الثالث من شهر حزيران/ يونيو 2011، وبعد عدة أشهر من تماثله للشفاء؛ تصرف علي عبد الله صالح كشخص ميت بالفعل، كما كان يحدث بعض المقربين منه الذين كانوا يسعون لرأب الصدع بينه وبين أحد أكبر رجالات نظامه الفريق علي محسن صالح، إذ كان يرفض مثل هذه المساعي ويمضي قدماً في الانتقام من كل الذين انشقوا عليه وأيدوا الثورة.
لذلك طغى حقده على كل شيء، وقرر أن يسلم إمكانيات الدولة اليمنية للحوثيين أملاً في إعادة اصطفاف مذهبي يمكنه من استعادة السلطة والتخلص من الحوثيين في الوقت المناسب.
لكن الرئيس الحالي عبد ربه منصور هادي، الذي ينتمي إلى محافظة أبين في جنوب اليمن، والمقيم في الرياض منذ 2015، كان أكثر سخاء من سلفه مع الحوثيين، فقد خفف الأعباء عن الجميع ومضى يؤثث الطريق الذي سلكه الحوثيون للوصول إلى صنعاء، قبل أن يتحول إلى هدف للحوثيين الذين أهدروا كرامته الرئاسية وأجبروه على الهروب الطويل، قبل أن يستقر أخيراً في الرياض بلا إرادة ولا سلطة.
لذا ليس غريباً أن يتغول الحوثيون في مهمة تطييف المجتمع اليمني وتفخيخه، عبر استخدام أدوات السلطة المتاحة لديهم. فبدون التأثير الجذري في وعي الناشئة لن يتمكنوا من البقاء، لأن أسلوبهم في الحكم يحمل بذور الفناء السريع.
أقول ذلك لأن هؤلاء على خصومة تاريخية مع أمة بكاملها وليس فقط مع الشعب اليمني، إذ يعتقدون أن دعوة الإسلام ليست إلا تركة سياسية متنازع عليها، وليست دعوة توحيد ورسالة هدى للإنسانية لكي يعبدوا الله وحده لا يشركون معه أحداً من خلقه.