حينما تحدث المبعوث الأمريكي إلى اليمن تيموثي ليندركينغ عن شرعية وجود الحوثيين في المشهد، بدا للبعض كما لو كان يكشف سراً من الأسرار، أو أنه يخون مهمته الدبلوماسية، أو أن أمريكا وجهت طعنة غادرة إلى خاصرة الدولة اليمنية أو لنقل الشرعية اليمنية.
وقبل أن نوجه سهام النقد والغضب إلى الإدارة الأمريكية ومبعوثها إلى اليمن، علينا أولاً أن نسأل أنفسنا: أين هي الشرعية اليمنية بقواها السياسية وشخوصها والمتحكمين بقلمها، وفي مقدمتهم الرئيس هادي الذي انتهى به المطاف رئيساً لقسم التعيينات؟
تآمر الجميع على النظام الانتقالي الذي تأسس نهاية عام 2011؛ على إجماع وطني كبير عبر عنه اليمنيون بشكل خاص في مؤتمر الحوار الوطني. وبالنسبة لأشقائنا السعوديين مدعومين من أبو ظبي، فقد كان خيار هدم هذا النظام أولوية ملحة بالنسبة لهم. والأمر كان يحتاج أولاً إلى تفجير الحرب عبر جماعة الحوثي المحسوبة على إيران، لتعطيل العملية السياسية والانقضاض على العاصمة وفرض واقع جديد، وبهذه الطريقة يتم تقويض التركة السياسية الرائعة لثورة الحادي عشر من شباط/ فبراير 2011.
نجحت الخطة ودخل الحوثيون صنعاء بتغطية كاملة من الرئيس هادي وجيش الدولة وأجهزتها الأمنية، وعلى الفور باشر الحوثيون بمصادرة القدرات العسكرية للدولة. وهنا استدعى الأمر تدخلاً عسكرياً بقيادة السعودية لم يكن من أولوياته استعادة الدولة أو دحر الانقلاب، بل تدمير السلاح
لقد نجحت الخطة ودخل الحوثيون صنعاء بتغطية كاملة من الرئيس هادي وجيش الدولة وأجهزتها الأمنية، وعلى الفور باشر الحوثيون بمصادرة القدرات العسكرية للدولة. وهنا استدعى الأمر تدخلاً عسكرياً بقيادة السعودية لم يكن من أولوياته استعادة الدولة أو دحر الانقلاب، بل تدمير السلاح الذي وقع تحت تصرف الحوثيين.
وتزامن ذلك مع بدء جولة متقطعة من المفاوضات السرية التي كشف عنها فيما بعد وكانت تعقد بمدينة ظهران الجنوب (ظهران اليمن سابقاً)، وكان وفد الحوثيين يأتي إلى المدينة السعودية ومعه كميات كبيرة "القات" الذي بات العديد من القيادات السعودية الوسطى والصغيرة السياسية والعسكرية تتعاطاه بشكل مستمر.
لم تكن تلك الاجتماعات تعني سوى أن السعودية تهيئ الحوثي ليكون شريكاً سياسياً مؤثراً في اليمن. ومع ذلك، أظهر الحوثيون عناداً في التصرف كسلطة تواجه العدوان، وكان السلوك الحوثي مدفوعاً برغبة شديدة في إعادة مشروعهم السياسي الإمامي المقبور والمكروه من غالبية الشعب اليمني، وكان مدفوعاً أكثر بالأولويات الإيرانية بعد أن غرقت طهران في بحر العقوبات الأمريكية المشددة.
الحرب الجوية السعودية والإماراتية في اليمن انصرفت بشكل مكثف نحو ضرب أكبر قدر من الأسلحة الاستراتيجية التي تشكل خطراً على العمق السعودي، أما خيار تمكين الحوثيين سياسياً فقد كان مقبولاً من جانب السعودية التي أظهرت استعداداً كبيراً لدفع هذا الثمن بسخاء؛ في حمأة التصعيد الاعتباطي والأحمق ضد من تسميهم الإخوان المسلمين.
خيار تمكين الحوثيين سياسياً فقد كان مقبولاً من جانب السعودية التي أظهرت استعداداً كبيراً لدفع هذا الثمن بسخاء؛ في حمأة التصعيد الاعتباطي والأحمق ضد من تسميهم الإخوان المسلمين
وهذا يفسر لماذا لم يصدر عن السعودية ما يشير إلى امتعاضها من تصريحات المبعوث الأمريكي الذي كان يتحدث أمام المجلس الوطني للشؤون الخارجية، في سياق إقراره بأن الحوثيين باتوا أمراً واقعاً ويسيطرون على كتلة سكانية كبيرة، مما يقتضي التفاوض معهم.
وزارة الخارجية الأمريكية أصدرت بياناً توضح فيه أن التصريحات التي نقلت عن ليندركينغ خاطئة، وأن الولايات المتحدة كبقية دول العالم تعترف بأن الحكومة اليمنية هي الجهة الشرعية الوحيدة.
لا أعتقد أن الخطاب الذي صاغت خطوطَه العريضة دوائرُ الاستخبارات السعودية خلال السنوات الماضية، وبدا كما لو كان الجميع يخوضون معركة مصيرية مع إيران، قد عكس حقيقة الموقف السعودي تجاه اليمن، فالسعودية هي التي وفرت كل الذرائع التي تتيح لواشنطن أن توجه جهودها في اليمن خارج أولويات الشعب اليمني، طالما أن هذا الشعب لا يمتلك السلاح وليست لديه القدرة على تجريد الحوثي من سلاحه.
إن تاريخ العملية السياسية التي تحولت إلى أزمة وحرب يكشف عن أن استدعاء الحوثيين من كهوف صعدة كان يأتي ضمن مخطط رعته أطراف إقليمية ودولية، ونفذته بحماس النخبة الجنوبية الحاكمة في صنعاء، والتي نظرت إلى تقدم الحوثيين باتجاه صنعاء وإسقاطها خطوة ضرورية لإلحاق الهزيمة بالإخوان المسلمين.
لقد بدت التضحية بثورة شباط/ فبراير مهمة سهلة لهذه النخبة، التي كانت تعتقد أن القوى الإقليمية والغربية ستوفر لها الإمكانيات اللازمة لإعادة صرف "العفاريت" الذين دخلوا صنعاء؛ وتعهدتهم إيران ووجهت مسيرتهم نحو القصر الرئاسي، لتبدأ رحلة الهروب التي يقدمها هادي في كل مناسبة على أنها جزء من رحلة النصر والبطولة.
يتفاقم الوضع السيئ في الجنوب، ويزداد المجلس الانتقالي (المعادل الانقلابي للحوثيين) تغولاً.
يصمت الرئيس هادي حيال التصريحات الأمريكية، وصمته في تقديري لا يشكل خروجاً عن المألوف، فالحوثيون ليسوا عدوا بالنسبة لهادي، عكس ما تشي به تصريحاته المتقطعة والمناسباتية ضدهم
وكالعادة يصمت الرئيس هادي حيال طرد حكومته من عدن، ويعود ليمنح السعودية ما تريد من موافقات من أجل إعطاء اتفاق الرياض فرصة أخرى لتمكين الانفصاليين.
ويصمت الرئيس هادي حيال التصريحات الأمريكية، وصمته في تقديري لا يشكل خروجاً عن المألوف، فالحوثيون ليسوا عدوا بالنسبة لهادي، عكس ما تشي به تصريحاته المتقطعة والمناسباتية ضدهم.
لقد خجلت أمريكا من تصريحات مبعوثها، ولم تخجل السعودية ولم يخجل الرئيس ولا مساعدوه الجنوبيون، فيما تزداد النخبة الشمالية انقساماً وضعفاً بعد أن توزعت مصالحها بين الرياض والقاهرة وأبو ظبي، وأحاطت ببعضها المخاطر والتهديدات، إلى حد لم تعد تستطيع معه أن تحدد موقفاً أو تبدي رأياً، مع أن بإمكانها أن تخرج من هذه الدائرة استناداً إلى الإمكانيات المتاحة لديها على الأرض، والتي استطاعت أن تحول معارك الحسم التي يخوضها الحوثيون في مأرب وتعز إلى خسائر فادحة؛ ما أسهل أن تتحول إلى نصر إن كانت هناك بالفعل سلطة شرعية وقادة حقيقيون.