أشيع، في الربع الأخير من القرن الماضي، أن الإيدلوجيا التنافسية الوحيدة ذات الإمكان العالمي هي الإسلام وأنها نظام جديد في السياسة العالمية يسوده " صدام الحضارات"، بعد أن وصفوها بأنها تهديد عالمي جديد يعادل الشيوعية إبان الحرب الأفغانية، التي أدت التي تفكك الاتحاد السوفيتي وتغير خارطة السياسة العالمية في الشرق والغرب.. وتمّ، بعد ذلك، دعم للجماعات الإسلامية في بعض الدول من أجل إضعاف اليسار، بشرط أن تبقى الجماعات الإسلامية مُلجَمة؛ بينما توجّهت الأنظار إلى الثورة الإيرانية، التي أدت إيدلوجياها بمريديها إلى إنكار شرعية أو أهمية الحدود الدولية ذاتها.. بعدما أعلن الخميني أنه "لا حدود للإسلام"، ليصبح هذا الشعار مدخلاً لإثارة الفتن والقلاقل في الدول التي يقطنها الشيعة بنسب متفاوتة، ومنها العراق، التي سقطت في أيديهم، واليمن، الغارق في مستنقع المؤامرات .
في اليمن كان من المفترض أن يؤدي تدخّل التحالف العربي عسكرياً إلى استعادة الشرعية المسلوبة أو انهيار جماعة الحوثي. ولكنه أسهم في تمكين الجماعة أكثر وساعدها في بسط نفوذها وتعزيز سيطرتها على الأرض بصورة مشابهة لما حدث في إيران إبان حربها مع العراق، والتي تعدّ ثاني أطول حرب في القرن العشرين، بعد حرب الصين واليابان .
مما لاشك فيه أن ما يجري في اليمن يُعدّ استنساخاً للمشروع الذي يُنسب شكلياً إلى الخميني، والذي دعا من خلاله إلى "تصدير" الثورة الإيرانية إلى العالم ولكنْ بإخراج مختلف نوعاً ما.. وهو أن الثورة الإيرانية بقيادة الخميني ومن معه كانت قد أخذت وقتها ووفرت إطارا تنظيميا وايدلوجياً أصبحت بها التبعية ممكنة، خلاف ما يحدث في اليمن.. فإذا كانت "إعادة تصدير الثورة إلى العراق"، الذي يمثل الشيعة 50% من سكانه، من ضمن أهداف الثورة الإيرانية بقيادة الخميني وقتها، فإن هذا لا يبرز أحد الجوانب الخفية في حياة الأب الروحي لإيران الحديثة وحسب، وإنما يكشف التوجّه العالمي نحو " إعادة تدوير الصراع الديني". ويثبت أن "تصدير الثورة" مشروع عالمي وليس إيرانيا من "ابتكار" الخميني، الذي كان يرى أولوية سلطة الدولة على الشريعة .
على خطى الخميني نفسها، تحاول أن تسير جماعة الحوثي، التي بدأت مشروعها بالتصدي لجميع الأحزاب والتنظيمات السياسية اليمنية وألحقت بها خسائر سياسية فادحة منذ الوهلة الأولى، ليتسنى لها التحكم في الحراك السياسي الداخلي وتجميد الأحزاب والتنظيمات السياسية ومعها الدستور القديم للبلاد وعرقلة تمرير الدستور الجديد.. ولم تتوان في "تفريخ" المئات من القوانين على الرغم من عدم وجود دستور يعطيها الصفةَ القانونية لذلك، ما أدى إلى ضياع الفُرص الممكنة لترميم ما أمكن على الساحتين المحلية والدولية، باعتبار أن الجماعة لا تمثل حزبا أو تنظيما سياسيا، وليست لها خلفية إيدلوجية أو حزبية أو سياسية .
استغلت الجماعة المذكورة عامل الوقت منذ بداية التدخل العسكري من أجل ترتيب صفوفها وعمدت إلى تسخير المرافق الحكومية في سبيل خدمة مشروعها الفئوي المغلق، واستحداث جماعات قتالية مساندة تمثلت في "اللجان الشعبية"، التي أتيح لها ما لم يتح للجيش نفسه من اختصاصات! وانعكس هذا الوضع سلباً على المؤسسة العسكرية وأدى إلى تحطيم روح التفاني والاعتزاز بالانتماء إلى تلك المؤسسة العريقة، وترتب عليه تنامي التشكيلات اللانظامية المكونة من العاطلين من الشباب للقيام بأعمال أجهزة الدولة، التي تم إفراغها من محتواها .
يمكننا الجزم بأن الحصيلة التي جنتها الجماعة حتى هذه اللحظة لا تتعدى الحصول على تلاحم قبَلي بسيط من قبل أصحاب المصالح الآنية، مقابل سخط لامُتناهٍ من بقية اليمنيين. كما يمكننا الجزم بأن الجماعة ما كانت لتحصل على أي التفاف داخلي لولا الدسائس التي حيكت وما زالت تحاك ضد الشرعية اليمنية والنظام الجمهوري. فالوقت هو العامل الوحيد الذي تستند إليه جماعة الحوثي منذ البداية، بينما تعجز الشرعية عن استثماره، في ظلّ الضغوط الدولية الحالية، التي تصب كلها في صالح الحوثيين، العاجزين تماماً عن مواجهة أنفسهم بحقيقة عجزهم عن ايجاد إستراتيجية اقتصادية -سياسية -اجتماعية حقيقية يمكن إسقاطها على أرض الواقع وتحقيق مستوى مقبول من التسامح بين الناس، وإشاعة أي نوع من أنواع الديمقراطية والتسامح، السياسي أو الديني أو الثقافي، لأنها لا تؤمن بذلك من الأساس .
إجمالاً، الثورة الإيرانية بكل ما تصدّره الى دول المنطقة، ومنها اليمن، إرهاب وانتهاكٌ صريح لحقوق الإنسان وانتقاص من القيمة المجتمعية لليمن والمنطقة، ومثلها حركة طالبان وأذرعها، التي سُلمت لها أفغانستان مجدداً بُغية إعادة الصراع الديني المتجذر، والذي يستمد طاقته من الاحتقانات المذهبية والطائفية السابقة. ومن المخاتلات أن نرى ونسمع من يُبرّر أفعال جماعة متشددة لمجرد ظنه أن قضيتها "عادلة" من منظوره الشخصي أو لتشابك مصالحه معها، أو ترويج أنها تحارب الإرهاب، كما تفعل بعض مراكز القوى مع جماعة الحوثي، الغارقة في الفساد في اليمن، لكون الإرهاب كلمة بلا تعريف متفق عليه حتى هذه اللحظة.. إلى درجة أنه من يكون إرهابيا بالنسبة إلى شخص قد يكون "مناضلاً" بالنسبة إلى غيره ممن يفكرون بطريقته نفسها.. فمن يُقنع أمريكا وحلفاءَها بأن المبادئ التي يعلنونها في الأماكن الأخرى تتنافى مع ما يقومون به في بلدنا ومنطقتنا!؟