على وقع التطورات المهمة التي تشهدها أفغانستان، في ظل اتساع مساحة سيطرة حركة طالبان على البلاد وتوالي تسليم الأقاليم والمعسكرات والفيالق إليها سلمياً، الكثير من المهتمين بالشأن العام في منطقتنا، وعدد كبير من اليمنيين في الحقيقة؛ بدأوا باستخلاص النتائج والدروس التي يمكن أن يعاد استنساخها في اليمن، في ظل تشابه الظروف والأدوات واللاعبين إلى حد كبير.
قدمت الولايات المتحدة في أفغانستان درساً مخيباً للآمال، فبعد عشرين عاماً من الاحتلال والهيمنة واختبار أشد أنواع الأسلحة فتكا وتدميراً؛ ها هي تضطر إلى توقيع اتفاق لتسليم أفغانستان إلى الجهة التي ذهبت بقضها وقضيضها إلى هناك للقضاء عليها، وهي حركة طالبان، الأمر الذي تتحول معه تطورات أفغانستان إلى ظل مخيف على اليمن.
والسبب في ذلك يعود إلى أن هذه التطورات قد يشجع بلدا تابعا لأمريكا مثل السعودية على أن يطبق نفس السيناريو في اليمن دون أن يحاسبه أحد.. لماذا دخلت السعودية إلى اليمن وحاربت فيه وأحدثت كل هذا الخراب ثم انصرفت مخلفة مصيراً مجهولاً وبائساً كالذي نراه في أفغانستان، مع فارق جوهري وهو أن الوضع في اليمن ازداد سوءا وبؤساً منذ أن تدخلت السعودية عسكرياً فيه لدعم السلطة الشرعية ولدحر الانقلاب، كما زعمت.
ففي اليمن ثمة نموذج مشابه لطالبان يمثله الحوثيون، رغم اختلافهم الكبير من الناحية المذهبية والعقائدية عن طالبان، وافتقادهم إلى الحاضنة الاجتماعية التي تتمتع بها طالبان، مع تطابق الظروف التي استدعت تدخلاً أجنبياً في أفغانستان مع تلك التي شهدها اليمن، حيث بقي الانقسام حاداً في بنية السلطة الجديدة القديمة التي أعقبت ثورة الحادي عشر من شباط/ فبراير 2011، تماماً كما جرى في أفغانستان منذ هزيمة الاتحاد السوفييتي وإخراجه منها.
وفي اليمن جرى ويجري توظيف ذريعة إرهاب القاعدة بنفس القدر الذي جرى توظيفها في أفغانستان، حيث صنف اليمن باعتباره ثاني أهم ساحة لانتشار النشاط الإرهاب للقاعدة بعد أفغانستان.
لكن الدرس الأهم الذي يتعين استيعابه من تجربة الاحتلال الأمريكي لأفغانستان، هو أن الإرهاب قد تراجع باعتباره مصدر تهديد حقيقي للأمن القومي الأمريكي وللمجال الحيوي لأمريكا والغرب، ليبرز التهديد الحقيقي المتمثل في تنامي قوة الصين العسكرية والتكنولوجية، وإمكانية أن تصبح القوة الأكبر اقتصادياً ومن ثم عسكرياً، يضاف إليه التهديد الروسي وفقاً للتصنيف الأمريكي للائحة الأعداء الجدد.
هذا الأمر يُسقط على الفور المبرر الذي تذرعت به أبو ظبي خلال حربها تحت القيادة السعودية في اليمن، إلى حد أنها قدمت نفسها على أنها تقود معركة منفصلة ضد الإرهاب في اليمن، وهي الذريعة التي أتاحت لأبو ظبي والرياض معاً أن توجها معركتهما في اليمن صوب أهداف خطيرة للغاية من حيث تهديدها لكيان الدولة اليمنية؛ بالتقسيم وبهدم النموذج السياسي الديمقراطي الذي شكل أهم نتائج ربيع اليمن.
لدى الولايات المتحدة متسع من الإمكانيات والفضاء الجيوسياسي لكي تستوعب خروجها من أفغانستان بدون نتائج حاسمة، سوى أنها أخرت نمو وتطور هذا البلاد عدة عقود، فقد سبق لواشنطن أن خاضت حرباً مدمرة في فيتنام وخرجت منها مهزومة وبقيت دولة عظمى.
وهذا المتسع غير متاح للسعودية مثلاً إذا ما فكرت في أن تنهي الحرب في اليمن عبر تسليم البلاد لقوى الأمر الواقع الذي فرضتها، كالمجلس الانتقالي في الجنوب والقوات المشتركة في الساحل الغربي، أو إلى الحوثيين الذين استفادوا من انقلاب 21 أيلول/ سبتمبر 2014 واستفادوا من الدعم الإيراني.
والسبب يعود إلى عامل الجوار الجغرافي الذي لا يمنح السعودية ترفَ العبث بنتائج الحرب على نحو ما شهدناه في أفغانستان، لأن أي تحول في معادلة القوة لصالح الحوثيين سوف يضع السعودية بكل إمكانياتها في مرمى التهديد الذي ستشكله قوة تدعمها إيران وستعمل على تحويلها إلى جبهة متقدمة في جنوب شبه الجزيرة العربية.
لقد حرصت السعودية وبمؤازرة الإمارات على بناء قوى أمر واقع متصارعة، وحرصت أكثر على أن تكون السلطة الشرعية هي أضعف الأطراف، بحيث لا يكون بوسعها إفشال سيناريو مشابه في اليمن كالذي طبقته واشنطن في أفغانستان. وفي الوقت ذاته قد يجد الحوثيون صعوبة في إتمام السيطرة على اليمن في ظل وجود قوى أمر واقع سلّحها التحالف، وستكون قادرة على إعاقة الحوثيين ما بقي الدعم السعودي والإماراتي.
لذلك فإن التحدي اليوم يكمن في كيفية مواجهة سيناريو قد تطبقه الرياض ويفضي إلى تسليم اليمن وشعبه إلى الفوضى والتشظي، وإلى المزيد من العنف والإذلال المعيشي والنزوح والتهجير. وهذه المواجهة تتكئ بشكل أساسي على القوة الهائلة التي يمثلها المجال الدستوري والقانوني الذي تتحرك فيه السلطة الشرعية، وهذا يفترض في تقديري المزيد من الوضوح في مواقف الرئيس هادي الذي ساهمت سياساته ونواياه السيئة في الدفع باليمن إلى هذا المنحدر السحيق.
والسؤال المطروح اليوم هو: هل بوسع السلطة الشرعية أن تتجاوز ضعفها والضغوط التي تتعرض لها وظروف الإقامة شبه الإجبارية في الرياض إلى مستوى يمكنها من القيام بدورها لانتشال البلاد وتغيير قواعد اللعبة، والاتكاء إلى الزخم الشعب الرافض للانقلابات والتقسيم والهيمنة الخارجية؟
إن كل شيء يتوقف على ما ستنجزه هذه الشرعية بمؤسساتها وشخوصها، وفي مقدمتهم الرئيس الذي يتعين عليه أن يضمن عودة مشرفة إلى مسقط رأسه على الأقل؛ دون أن تسبقه مظاهرات يتحكم بها البعض عن بعد، ويرى بأم عينيه كما رأى من قبل أبناء بلدته «الوضيع» يدوسون بأقدامهم الصور الرسمية لرجل دفعت به الأقدار إلى حكم اليمن، فعبث وفرط وتآمر كما لم يقم بذلك حاكم من قبله.