تتم إدارة ما يطلق عليه الصراع الأمريكي الإيراني بطريقة ماكرة واستفزازية . وقد أخذ ذلك أكثر من حجمه، وعلى العرب النظر إلى الأمور ببصيرة ثاقبة أكثر. فمنذ عقود، وأمريكا تطلق تهديداتها المستمرة لإيران، بينما تعمل الأخيرة على تأمين نفسها في العراق وسوريا ولبنان واليمن، بإحاطة أمريكية فاعلة وغطاء سياسي أممي. وبعد تحقيق الهدف من هذه الحروب ستكون هناك محاولات لاحتواء الجميع، بمن فيهم المعارضون والمقاومون، وإشراكهم في منظومات الحكم، برعاية أمريكية، بإسناد إقليمي ودولي، حسب الحاجة ووفق أسس مدروسة ومفروضة، تُعرف بالمصالحات الوطنية .
لقد نجحت أمريكا وبريطانيا في جر المنطقة إلى حرب داخل الإسلام نفسه وإخماد شعارات الجماعات الإسلامية التي كانت تنادي بحشد الطاقات لمواجهة الغرب، الذي ذهب أبعد من ذلك، إذ صارت للدول الغربية تحالفات خفية مع بعض القوى والجماعات الدينية، توفر لها بمقتضاها دعماً وإسنادا لوجستيين كافيَين . وكلما ارتفعت العوائد الاقتصادية المحققة، سواء من النفط الذي تهرّبه الجماعات أو الذي تبيعه الأنظمة، تضاعفت كلفة الحرب على الأطراف المتناحرة، من تنظيمات يتم وصفها امام الإعلام بـ"الإرهابية" وأنظمة تقتني أسلحة بأرقام مهولة بهدف مواجهة "الإرهاب" والتصدّي له .
قد يصور البعض الصراع الدائر في بعض بلدان المنطقة، ومنها اليمن، بالصراع الديني، مرجّحين كفته على الهوية الوطنية، وهذا هو موقف يميل إليه العوام، ومعهم بعض رجال الدين الذين يرون أن الخلاف حول من يمتلك التفسير الصحيح للإسلام والمرجعية التي استندوا إليها في ذلك، بالإضافة إلى إرث تاريخي يستند إليه كل طرف في شرح مظلمته مصوراً ومتصوراً. بينما تتمسك النخب الثقافية والسياسية بالهوية الوطنية كأساس تحدد بموجبه أبعاد الصراع الأخرى، الدينية والتاريخية والثقافية.. في حين تهدف مراكز القوى العالمية من هذا كله إلى خلق شعوبٍ بلا سلطة وبلا سلاح، ما يُمَكّنها من التعامل مع بقية الرموز الوطنية ومخاطبتهم بصورة فردية. وهذا معناه قتل العملية السياسية، من خلال تهميش التكتلات الحزبية وترجيح كفة الميليشيات المسلحة عليها .
اليوم، تغرق أوطاننا في التصنيفات، بخلاف ما تقوم إيران، التي تسعى إلى استثمار الاحتقان القائم، محققةً مكاسب سياسية على أكثر من جبهة. وما أكثر المواقف العربية المخجلة حيال بعض قضاياهم. وقد سُجّل أحدها عندما دعمت إيران حركة حماس في فلسطين، إذ لم تتعدَّ ردود الفعل العربية وصف حركة حماس، ذات التوجه السنّي، بأنها "شيعية". والسبب "الوئام" بينها وبين إيران وحزب الله.. حماس، الحركة التي كان البعض قد وصفوها بـ"الإخوانية" بسبب تعاطف بعض الجماعات الدينية معها. فإلى متى ينخى العرب أمام أذرع إيران المختلفة في المنطقة؟ هل السبب يكمن في خشيتهم ردة فعل "الأمم المتحدة"، التي تزعم تعاطفها مع الأقليات على الرغم من أن قراراتها (الأمم المتحدة) نفسها تستند إلى الأغلبية، والأغلبية هُنا تشير إلى الأنظمة الشرعية وليس التي يريدون شرعنتها خدمة لأغراضهم في ابتزاز دول المنطقة. فلماذا لا تصرّح الأمم المتحدة بأن سبب تعاطفها يكمن في المكاسب الاقتصادية التي تجنيها من وراء استمرار تلك العداوة المذهبية التي غدت "مستدامة ذاتياً" بين الشّيعة والسنّة؟ !
نتيجة للضغوط السياسية الحالية في العالم الإسلامي تحديداً، تعالت الأصوات المنادية بوجود حركة إصلاح ديني، قيل إنها بدأت قبل سنوات ولكنْ بغطاء سياسي. وقد اتسمت هذه العملية بقدر كبير من العنف والكراهية، إضافة إلى العبثية، التي وسعت الفجوة بين جماعة السنة، الذين يمثلون 85 في المائة من إجمالي المسلمين، بينما يمثل الشيعة غالبية من الـ15 في المائة المتبقية. والصراع الدائر في الشرق الأوسط ناتج عن الشرخ، الذي يتسع، بين هاتين الفيئتين تحديداً، بمباركة من الدول الكبرى، التي تبقى المستفيدَ الأكبر من كل ذلك . وقد شرعوا في تسليم العراق إلى إيران قبل عقد ونيف، لتكون هذه هي المرة الأولى التي يحكم فيها الشيعة دولة عربية منذ تأسيس الدولة العباسية في 740 م، لتكون بذلك ورقةَ إيران الرابحة وشوكة في حلق العرب .
غالباً ما تطغى المصالح السياسية على التعاطف الديني، ولكن لعبة التقاسمات العالمية والتقلبات الحالية في الوطن العربي والشرق الأوسط تُظهر الأمر على أنه حملات شاملة ومنظمة ضد السنّة، ما يجعل من عملية التشضي الحاصل في بعض البلدان ذريعة لبناء أجنحة عسكرية خاصة بهم، لتتسارع الأصوات العالمية المطالبة بمحاربة الجماعات السنّية لكونها "ميليشيات" خارجة عن النظام والقانون تصعب السيطرة عليها. بينما تدعم الميليشيات الشيعية أو تغضّ الطرف عن دعمها. والحقيقة أن بقاءها يعدّ الورقةَ الرابحة، وربما الوحيدة، لضمان إحكام السيطرة على ثروات المنطقة وابتزاز الأنظمة، سياسياً واقتصادياً .
الشعوب المغلوبة في المنطقة لاتحتاج إلى قدرٍ أقلَّ من التدخلات، بقدر حاجتها إلى قدر أكبر من التزام العالم الخارجي بقراراته حيالها، إحقاقاً للحق في جميع القضايا المتعارف عليها، وليس فيما يراد فرضه بالقوة. وإذا ما نظرنا إلى إيديولوجيات المنطقة بعمق سنلاحظ أنها أصبحت معزولة نسبياً عن محيطها وعن مواجهة الإشكالات القائمة بجدية وحزم، على الرغم من أنها مصدر لتمويل الكثير من الصراعات الإقليمية والعالمية، سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة .