منذ خلق الله البسيطة والأنظمة تتطور وتتبدّل وفق ما تقتضي الحاجة وحسب متغيرات الزمان والمكان. جميعها ترى في الجمود آفة وتبرير الفشل آفة واحتكار السلطة آفة والسلالية أكثر الآفات فتكا بالمجتمعات.. ويجب أن تُنبذ وأن يقف الجميع أمامها صفاً واحداً. فلا أفضلية لفئة دون أخرى، لأنّ اختزال الدولة في فئة أو طائفة سيوردها موارد الهالكين. فقد خُلق البشر بفكر سويّ، هم من وضعوا محددات الخلافات والاختلافات وأبعادها، وهم وحدهم من سيدفعون ثمن أي انحراف عن المسارات الصحيحة، وهم الأكثر دراية بأمور دينهم ودنياهم .
أي حراك إذا تغذى بالفكر أوجد أنظمة قوية، بينما إذا افتقر إلى الفكر زاد الطين بلة، وهذا ما كانت تعانيه الجمهورية اليمنية، تلك الدولة التي كانت ولا تزال ضعيفة وغير مُحصَّنة سياسياً، والسبب الانتكاسات العديدة التي تعرّضت لها وما زالت تتعرض لها وتضطرّها إلى بذل الغالي والنفيس في سبيل ترميم ما أمكن على الصعيدين السياسي والاقتصادي والتصدي للتكتلات الفاسدة التي تنتج الفقر وتتبنى سياسة التجويع، حتى تظل الأمور "تحت السيطرة ". ولعلّ هذا ما تعانيه الدول المتناحرة في المنطقة. إنها سياسة "اِجعل جارك متسولاً"، كما قال الخبير الاقتصادي ريتشارد باريتشيلّو. هذه السياسة تقتل الحراك السياسي والدينامية الاقتصادية على السواء وتدعم ما يعرف بـ"اقتصادات الظل "أو" اقتصادات السوق السوداء ".
لا يختلف اثنان اليوم على أن طامة اليمن الكبرى تتمثل في "جماعة الحوثي" ومَن والاها ممن يرون أن المواطنة لا تخرج عن إطار الربط بين المواطن والوطن، في حين يجب أن تكون "المواطنة" حقاً يمارس ويستفاد من ممارسته. فمن غير المعقول أن تمارس المواطنة الصحيحة عندما تُفرَض الشروط الأحادية على الشعب من قبل اولئك الذين لا يعترفون بمبدأ الشورى، لأنّ إلغاء الشورى وحرية الرأي والتعبير يندرج ضمن الأساليب القمعية والاستبدادية، فالشعب هو مصدر السلطة .
وما إن دقت طبول الحرب في اليمن حتى وزعت جماعة الحوثي التّهم جزافاً على اليمنيين، وفي مقدمتها الخيانة الوطنية، ووصفتهم بالطابور الخامس. ولهذا فإن جلوس الشرعية إلى طاولة المفاوضات مع هؤلاء مستقبلاً عبث لا معنى له وخطوة ستُحجّم الشرعية أكثر وتُضعف موقفها، خصوصاً أنها تفاوض طرفا لا يؤمن بوجود فضاء سياسي. وإذا وافقت الشرعية على الرضوخ لطلبات المبعوث الأممي الجديد، نزولاً عند رغبة جماعة شديدة النفاق وبارعة التلون وهشّة التفكير وضيقة الأفق ومتسلطة، كالحوثيين، فإن الشرعية تسير بالشعب، بخطى ثابتة، نحو الهلاك .
قبيل أعوام، كانت جهود المستفيدين على الساحتين المحلية والدولية تتكاتف ضد الشرعية، عندما كانت أمور اليمن تسير على ما يرام، وتتكاثف الغيوم فوق ربوع الوطن، ويتم اختلاق مشاكل لا وجود لها من الأساس... لتمطر المنابر الدولية بالخطابات المنادية بضرورة تسريع العملية السياسية، التي كان المجتمع الدولي يصفها مجازاً بالراكدة، ليس عن قناعة منه، ولكنْ حسب ما يُملي عليه صناع القرار الذين يختلقون من التنبؤات المعقدة حول مصير اليمن والمنطقة ما لا حصر له ولا عدد، وكيف لا، والتنبؤات هوسهم وهاجسهم الوحيدان .
بدورها، كانت بعض الدول تقف مترقبة ما سيحدث. والحقيقة أنها في انتظار ما سينتج عن عملية التغير في كل مرحلة. وتخشى أن تقلص الدول النافذة حصتها من عملية الحصاد، بعد أن توسعت رقعة الحرب في المنطقة، وتحجز مكانها في الصفوف الأمامية لتنفخ في النيران أكثر.. وتترقب، بفارغ الصبر، هبوب أية عاصفة جديدة تضرب المنطقة في أية لحظة، طمعاً في مضاعفة رصيدها من المكاسب. ولهذا كانت الدول النافذة تقوم بتبيئة المنطقة لتقبّل الآفات السياسية والاقتصادية، بأنواعها، وتمكين الميليشيات من لعب دور أكبر .
ويُلقي رجال السياسة المتمرّسون في إدارة الأزمات اللوم على عدة عوامل أسهمت في تفاقم معاناة الناس في اليمن، لا يقود جُلها إلى نتيجة. وكلما أجادوا اللعب على المتناقضات، التي تتضاعف يوما بعد آخر، زادت الغلة التي ستجنيها مراكز القوى جراء ذلك وتَواصَل، في المقابل، تآكل مدخرات بلدان المنطقة واحتكار عقود الاستثمار المستقبلية فيها وبروز لاعبين جُدد على الساحة بالمواصفات المطلوبة مؤقتاً .
الحقيقة المُرّة أن الأزمة اليمنية قد تتحول إلى أزمة ثقة بين النظام الشرعي والشعب، من جهة، ومع دول الجوار والأمم المتحدة، ومعها مجلس الأمن، من جهة أخرى. ولأنّ مراكز صناعة القرار العالمي الحالية تمكنت، بخُبث، من إقناع الدول المصدرة والمُصنعة والمنتجة أيضاً بإعطاء أولوية للسياسة على الاقتصاد، على الرغم من أن الصراع اقتصادي أكثر مما هو سياسي أو ديني، أصبح اليمن غارقا، سياسياً واقتصادياً، حتى النخاع .
إن غاية المتحكمين في مصير اليمن المنشودة هي زعزعة العلاقة بين المواطن والسلطة، بما يؤدي إلى فقدان الثقة بسلامة الحكم.. وبالتالي اضطرار المواطن إلى التسليم للمليشيات المسلحة، بعد حجب جميع الوسائل والآليات الحقيقية للتفاعل المباشر بين الحكومة الشرعية والشعب وتغييب دور الدولة الحقيقية، من خلال منعها من أداء دورها تجاه المواطنين، الذي تحدده وتحكمه قوانين وأنظمة ولوائح بدأت تلفظ أنفاسها الأخيرة.. وتعبيد الطريق أمام المليشيات المسلحة التي تبسط نفوذها على الأرض في ظلّ تواطؤ إقليمي ودولي.. وتسنّ ما يحلو لها من تشريعات أقلّ ما يقال عنها إنها اضطهادية حتى النخاع، في محاولة لتشوية الهوية الوطنية والعبث بمكتسبات اليمن الجمهوري، وتهميش الكوادر الوطنية، وإغراق البلد في المؤامرات، وتقديم الدعم لأولئك العاجزين الذين يتغنّون بالماضي الكهنوتي ويحاولون اجترار سنواته العجاف، وتقديم العوامّ كأكباش فداء في سبيل الحفاظ على ما يطلقون عليه ... " الشّرف الرفيع ".