المشهد في اليمن يهيمن عليه هذه الأيام متغيرٌ واحد، وهو استمرار الحوثيين في حيازة مكاسب عسكرية في محافظة مأرب الاستراتيجية، ومواصلة المجلس الانتقالي فرض نفوذه الأمني في العاصمة السياسية المؤقتة عدن على وقع أحدث المعارك العبثية التي تسببت في سقوط المزيد من الضحايا، وفي مواصلة تدمير أحد أهم وأقدم مدن وأحياء العاصمة المؤقتة، التي انتهت كالعادة بعودة المتقاتلين إلى الملاذات المحصنة التي يوفرها التحالف بشقيه السعودي والإماراتي لهؤلاء المقاتلين.
تتميز الجهود السياسية التي تبذل حالياً بواسطة المبعوثين الخاصين إلى اليمن: الأمريكي تيموثي ليندر كينغ والأممي هانزغروندبرغ؛ بالنفس الطويل والرتابة، والارتهان إلى خطاب يشدد على الأولويات الإنسانية والإغاثية ويتجاهل استمرار الحرب وضرورة وقفها على الفور، لأن الحرب وحدها من يفتك بالآلاف ويعمق المعاناة الإنسانية ويدفع بالملايين إلى حافة المجاعة.
وبينما تتجه الحرب التي يشنها الحوثيون على مأرب نحو تهديد ملايين اليمنيين في عاصمة المحافظة، فإن الحكومة الأمريكية لم تفعل أكثر من أنها أضافت مأرب إلى قائمة المناطق التي تتهددها الحرب بكوارث إنسانية فظيعة، فيما وجد السعوديون فرصة لبقاء مأرب قيد الاستنزاف المستدام للموارد البشرية والاقتصادية، ومنطقة مفتوحة على موجات لا متناهية من النزوح، جراء الحرب الشرسة، وهدفها هو أن تُثبِّتَ الحوثيين طرفاً محلياً فتاكاً ومنتهكاً لحقوق الإنسان ومدعوماً من إيران؛ في معادلة الصراع التي تضع السعودية طرفاً خارجياً متورطاً بشكل مباشر في هذه الانتهاكات، وفقاً لتقييم المنظمات الدولية وجماعات الضغط في واشنطن.
الخطاب السياسي والإعلامي للمنظومة الدولية والدبلوماسية الأمريكية بشأن الحرب الدائرة في اليمن يبدو أنه صيغ بعناية ليتم تصديره إلى المؤسسات الغربية؛ التي تنشغل بنفاق شديد بمظلومية اليمن وتسوقه كضحية لدول غنية تحاربه بأدوات فتاكة، وهي سردية تغطي على القاتل الحقيقي الأشد فتكاً والذي تمثله جماعة الحوثي المدعومة من إيران، بل وتشد على أيدي هذه الجماعة لأنها تواجه السعودية الوهابية وتحارب الإرهاب المزعوم.
ترتهن الإدارة الأمريكية لتأثير الكونجرس وللعشرات من الواجهات الإنسانية والحقوقية بالإضافة إلى جماعات الضغط التي تعمل كلوبي لخدمة مصالح المنخرطين في الصراع اليمني، في متاجرة معلنة بل ومقننة أمريكياً بالمواقف الرسمية المفترضة لواشنطن حيال القضايا الدولية، بما فيها تلك التي تحدث آثاراً مدمرة على السلام العالمي كما يجري في اليمن.
ولهذا سيستمر الجهد الدبلوماسي الأمريكي بالضغط على السعودية، التي لم تعد تجني من الشراكة الاستراتيجية مع الولايات المتحدة الأمريكية سوى هذه الضغوط والابتزاز والإهانات لقادتها، خصوصاً تلك التي صبها الرئيس السابق دونالد ترامب إبان مهرجاناته الانتخابية، ليستعرض قدراته في تطويع دول وممالك في منطقتنا لإراداته وخدمة للأولويات الاقتصادية والاستثمارية لبلاده.
بعد نصف شهر تقريباً على زيارة له إلى الرياض، ها هو المبعوث الأمريكي الخاص إلى اليمن تيموثي ليندركينج يستأنف جولة جديدة في المنطقة بدأها الجمعة بالأردن وتشمل الإمارات والسعودية وسلطنة عُمان، في تحرك تركز أولوياته "على تقديم الإغاثة الفورية للشعب اليمني، والدفع باتجاه وقف الحرب وصولا إلى سلام دائم وشامل في البلد تحت قيادة الأمم المتحدة"، كما جاء في بيان لوزارة الخارجية الأمريكية.
ليس هناك من معنى لجولة المبعوث الأمريكي، سوى أنها تخصم بالفعل من رصيد الحكومة الشرعية، ومن حقوق الشعب اليمني، الذي ينظر إلى الحوثيين المدعومين من إيران وهم يحققون أهدافهم في تناغم متفاوت من حيث المصالح والدوافع مع كل من السعودية والإمارات، رغم الضربات الجوية السعودية التي تستهدف إمدادات الحوثيين وتجمعاتهم في مناطق تقدمهم بمحافظة مأرب، لكن لا تصل إلى حد هزيمتهم.
لا يبدو إذاً أن واشنطن مستعدة للتصرف بحماس تجاه مبادرة وقف إطلاق النار المعلنة من جانب السعودية نيابة عن السلطة الشرعية، بما يقتضيه ذلك من مقاربة مختلفة لحالة عدم الانصياع التي تغلب على مواقف الحوثيين المرتبطين بإيران، خصوصاً أن مبادرة وقف إطلاق النار حققت ما كانت تريده واشنطن من انصياع سعودي تام، في حين ينظر إليها (المبادرة) المراقبون كخطوة توفر الحد الأدنى من متطلبات بناء السلام، لكونها تركز على الانطلاق نحو هذا السلام بناء على المرجعيات لا على المكاسب الميدانية التي أحرزتها الجماعات المسلحة؛ عندما تجاوزها الحوثيون وشركاؤهم في المؤتمر الشعبي العام منذ 2014 عبر الحرب.
وبقي أن نؤكد على أن المقاربة الأممية والأمريكية للحرب في اليمن، تتكئ على رصيد من الانتهازية التي غذّتها للأسف سياسة الرياض وأبو ظبي ومعركتهما العبثية في اليمن. ففي المحصلة لا تمكن معرفة ما الذي يريده هذان البلدان، بعد أن فقدنا الأمل في كونهما يدعمان اليمن وشرعيتها أو يرغبان في هزيمة جماعة الحوثي المسلحة المدعومة من إيران.
فإذا كان المساران الدبلوماسيان الأممي والأمريكي يركزان على سلام بين الشرعية والحوثيين، فإن السعودية والإمارات استبقتا هذه الجهود بخلق مسار مليء بالتعقيدات في جنوب اليمن؛ من بين أهم أهدافه فصل الجنوب وإعادة تفكيكه، وهو أمر يجعل من الصعب التصديق بأن هذين البلدين جاهزان لمساعدة اليمن للتغلب على تهديد الحوثيين، أو منع حسم ممكن للحرب لحساب الحوثيين الذين يقاتلون لإعادة فرض نظام لا يكره اليمنيون نموذجاً أكثر منه في هذا العالم.