تتصدر معاركُ مأرب المشهدَ اليمني الساخن، وسط مخاوف جدية من تطورات قد تخلق معادلة صراع جديدة في اليمن إذا ما قُدر للحوثيين أن يحققوا هدفهم الإستراتيجي باحتلال مأرب ووضع اليد على ثرواتها النفطية والغازية، وهو هدف ليس متاحاً وليس سهلاً حتى اللحظة، ولا يمكن أن يقربه إليهم سوى تحول في الموقف السعودي يدفع باتجاه الإنهاء الكامل لدور الجيش الوطني وردفائه من القوى الوطنية، وتحييد القوى القبلية المساندة لهذا الجيش، بما يعنيه ذلك من تحويل معركة الرياض نحو إضعاف قوى الشرعية ومحاصرتها وإفنائها .
هذا الأمر دفع بـ25 نائباً برلمانياً من مختلف الأطياف، إلى مخاطبة الرئيس هادي بضرورة التحرك العاجل لتوفير سلاح وعتاد للجيش الوطني، مقترناً بانتقادات صريحة وجهوها للرئيس وحكومته التي اتهموها باللا مبالاة إزاء المعركة التي يخوضها الجيش الوطني ضد الحوثيين .
هذه الرسالة جاءت بعد أيام قليلة من بيان قوي صدر عن فروع الأحزاب التي تدعم الشرعية في محافظة مأرب، والتي تحدثت بوضوح ولأول مرة عن الإدارة السيئة للمعركة من جانب التحالف، وعن خذلان الشرعية للجيش .
لا يمكن التقليل من أثر هذه الرسائل والبيانات، لأنها تتجه نحو زعزعة الوضع الساكن لقيادة الشرعية التي تستقر في الرياض؛ كوديعة ثمينة تمنح الحكومة السعودية فرصة الحركة الحرة في الملعب اليمني بدون تبعات يمكن أن يفرضها القانون الدولي الذي يحكم العلاقات بين الدول، لهذا نراها تدير المشهد بعقلية من استحوذ على ممتلكات ضخمة شبه سائبة دفعة واحدة، فاتجه نحو إبقاء صاحب هذه الممتلكات مشلولاً ويائساً، بل ولديه استعدادٌ لتقديم تنازلات لكي يحصل على جزء منها في الوقت المناسب .
الولايات المتحدة أرسلت موفدها إلى اليمن تيموثي ليندركينغ، في جولة جديدة إلى المنطقة شملت عدة عواصم؛ كان اللافت فيها التصريحات التي أطلقها عقب لقائه وزير الخارجية العماني بدر البوسعيدي في العاصمة العمانية مسقط، والتي أكد فيها أن "النهج الإقليمي الموحد هو اللبنة الأساسية لتحقيق السلام في اليمن، في تلميح يؤكد المؤكد، وهو أن دول المنطقة والخليجية بالذات ليست موحدة في ما يخص مقاربتها لملف الحرب في اليمن، بالنظر إلى التداعيات المحتملة التي قد تسفر عنها المعركة، خصوصاً إذا أدت إلى تمكين السعودية والإمارات من حيازة أوراق جيوسياسية جديدة قد يتيحها الإنهاك المستمر لليمن وتفتيته والسيطرة على أجزاء حيوية من جغرافيته .
الأخطر فيما صدر عن ليندر كينغ كشفه عن أن بلاده تدعم "بقوة" المبعوث الأممي إلى اليمن هانس غروندبرغ؛ "لتطوير خريطة طريق لعملية سلام جديدة، وأكثر شمولاً، بقيادة الأمم المتحدة ".
وهذا يعني أن الولايات المتحدة التي كثفت من تصريحاتها المنتقدة للحوثيين على خلفية هجومهم العسكري على مأرب؛ بصدد طي صفحة المبادرة السعودية لوقف إطلاق النار، المرفوضة من الحوثيين، والذهاب إلى أبعد من ذلك وهو إعادة النظر ربما في القرارات الصادرة عن مجلس الأمن بشأن اليمن، بما يسمح بخلق مرجعية جديدة تمهد لفرض خارطة الطريق الجديدة هذه، والتي تستمد جديتها بالتأكيد من تآكل مكاسب السلطة الشرعية وتبديد الالتزامات المعلنة من جانب التحالف تجاه هذه السلطة .
وفي الجانب الآخر، تستعرض إيران وتنظيماتها الإرهابية قدراتها في كسر إرادة السعودية، عبر تكريس معركة مأرب كمنعطف خطير، تلوح في نهايته هزيمة سعودية وشيكة، إلى درجة أن نائب رئيس حزب الله اللبناني نعيم قاسم؛ اعتبر أن تصعيد السعودية تجاه لبنان مرتبط بمعركة مأرب، وهي تصريحات لا ندري مدى تأثيرها الفوري على السعودية وقراراتها ومواقفها الراهنة والمستقبلية تجاه اليمن .
ما ندركه بوضوح الآن هو أن السعودية تبدو ملتزمةً بدعم معركة مأرب جوياً، مع تمويل مالي سخي لشبكة الولاءات المحلية، إلى الحد الذي يبقي المعركة ورقة مساومةٍ رابحة في مسار تفاوضي يمكن لها أن تحصل من خلاله على تنازلات حوثية تخص المتطلبات الأمنية الحيوية للمملكة، وليس أي شيء آخر .
وهو أمر سَيبقى معه معسكرُ الشرعية، والقوات الحكومية في مأرب رهن هذا الالتزام المخاتل من جانب الرياض التي تصر على الدفع بالجيش وهو شبه أعزل؛ في معركة استنزاف تريدها أن تُثخن في جميع الأطراف اليمنية المتقاتلة .
غير أن معركة مأرب تشير إلى تطور مثير للاهتمام؛ يتمثل في تنامي قدرة الجيش والمقاومة على خلق واقع جديد يتعزز فيه صمودهما وصمود المدينة وكتلتها السكانية المليونية، وحيازتهما الثروات النفطية والغازية التي تشكل حافزاً مهماً للصمود والتمسك بخيار استعادة الجمهورية اليمنية .
شيئاً فشيئاً تتحول معركة مأرب إلى نقطة البداية في مسار جديد ربما لن ترسمه منذ اليوم الأطراف الإقليمية والدولية المتدخلة في ملف الحرب اليمنية، بل يخطه إصرارُ اليمنيين على الدفاع عن وجودهم ودولتهم ضد مؤامرة تسليم هذا الشعب لعصابة طائفية؛ يرى الغرب أنها ربما تحيّد هذه البقعة الجغرافية من العالم في معركة استهداف الغالبية العظمى من الأمة وكسرها .