لا شيء أسوأ من تقطيع الأوصال الذي شكل خلاصة سبع سنوات من الحرب، بدت خلالها محافظة تعز وكأنها الضحية الأولى بين المحافظات اليمنية بالنظر إلى المشاريع العسكرية والسياسية السيئة التي تحاصرها من كل اتجاه، وتفرض على أهلها نمطاً كارثياً من العيش .
الحرب ليست قصفاً بالطائرات والمدافع ينتج عنها دمار مادي محسوس، ولكنها في أسوأ تجلياتها تتبدى في تلك الندوب السيئة في أخلاق الناس ومعادنهم وسلوكهم، حيث يتحولون إلى أدوات بالغة الإيذاء، حتى أن الطريق الذي يصل تعز بعدن لم يعد ذلك الطريق الذي يحمل سالكيه على أجنحة المحبة والشوق والآمال العراض، بل تحول إلى كمائن مخيفة، حفرها وعمقها أناس ربطوا أرزاقهم بأقوات الناس ومدخراتهم، وزادوا على ذلك إحناً وضغائن حقنها في ضمائرهم المتحجرة خطاب إعلامي وسياسي بات ينظر إلى تعز والمحافظات الشمالية على أنها مجرد بلد مجاور وفائض بشري معيق لمشاريع التفكيك الممولة من الخارج .
لا تزال صورة عبد الملك السنباني الشاب المهاجر في الولايات المتحدة وهو يتطلع إلى لقاء تأخر كثيراً بأمه وشقيقاته، اللائي لطالما تطلعن اللقاء بعائلهن الوحيد، تسكن مخيلتي لا تفارقها، حينما ان يصارع جماعات بشرية ضارية رأته فريسة سهلة، لم تكتف بمدخراته بل رأت تصفيته على الطريق، واحتسابه أحد العناصر الحوثية وهذا يكفي، علماً بأن الحوثيين يمرون عبر مطار عدن في ظل تنسيق كامل مع أقرانهم في هذه المدينة المنكوبة .
كذلك حادثة اغتيال الصحفية الشابة رشا الحرازي مع جنينها ذي التسعة الأشهر، في مدينة عدن تحتل الذاكرة بكاملها فقد لقيت ذلك المصير المأساوي نتيجة مخطط إرهابي، ما كان له أن ينجح في تحقيق أهدافه لولا الفسحة التي تمنحها البيئة المعجونة بالأحقاد والتي تفخخ الطريق المؤدي إلى بيوتنا في المحافظات الشمالية من اليمن الغالي .
الناس أصحاب الأفكار المستقلة والمشاريع الوطنية والمؤمنون بالجمهورية والساعون وراء رقهم الحلال، هم ضحايا محتملين لطائفتين مسلحتين بالحديد والأحقاد الطائفية والمناطقية، أحدهما تختطف صنعاء والأخرى تختطف عدن، إلى حد نجح فيه أعداء بلادنا بألا يحصل أي منا على ملاذ آمن لجسده وفكرته ومشروعه .
كنت أتابع حالة أمي العزيزة الغالية كل يوم وهي تعاني من مرض الموت الأخير ولطالما تمنيت لو كنت بجانبها، وتهيأت الفرصة لي لزيارتها، فكان ذلك الطريق هو العائق الذي حال دون تحقيق أمنية إنسانية بسيطة وعادلة كهذه .
لا هدنة متاحة في ذلك الطريق، الجميع متأهبون للقيام بدورهم المعيق بكل إخلاص وتفاني، لا خدمة للمشروع السياسي الموهوم فحسب، بل أيضاً لتحقيق أهداف جانبية، يمكن وصفها بعوائد الحرب وحصاد الفوضى، التي تجعل هؤلاء ينهشون لقمتهم من أجساد العابرين .
ذهب واحد من أنبل الناس ضحية سهلة لعملية أمنية غادرة اعترضته في قارعة الطريق بينما كان ينتقل من تعز إلى عدن عابراً فيها إلى الخارج لاستكمال علاجه، ذلك هو الشيخ عبد القادر الشيباني رحمة لله تغشاه الذي كان مصيره الاعتقال في سجون سرية تتوزع بين عدن وأبو ظبي ليلقى ربه بعد أشهر شهيداً مجيداً، تاركاً خلفه أسئلة يصعب الإجابة عليها عن الحكمة وراء تعذيب رجل في سنه الكبير .
رحم الله امواتنا وأموات المسلمين، كشف عن بلدنا هذه الغمة المدلهمة.. إنا لله وإنا إليه راجعون .