أمس بدأ العام الميلادي الجديد 2022، لكنه بالنسبة لليمنيين أتى بأثقال الأعوام السابقة الأمنية والسياسية والاقتصادية والمعيشية، فيما بقيت سماء التجمعات الحضرية في اليمن مع بدء الدقائق الأولى من السنة الجديدة، كعادتها في زمن الحرب، مغشيةً بظلام دامس لا يبدده سوى وميض الرصاص، والوهج الناشئ عن ارتطام الصواريخ البالستية الإيرانية، والانفجارات التي يحدثها قصف الطائرات في الملاذات الآمنة للقيادات الحوثية ومخازن أسلحتهم وخطوط إمداداتهم .
طوى العام 2021 أيامه المثقلة بالخيبات والتحولات الدراماتيكية في مسرح العمليات العسكرية، وقصص القنص العبثي التي تحصد العشرات من الأبرياء في أطراف مدينة تعز، وبكثافة الموت التي تتمركز في المحيط الجغرافي لمدينة مأرب العتيدة، حيث تتحطم أحلام الحوثيين المدعومين من إيران؛ كما تتحطم الصواريخ البالستية والطائرات المسيرة المفخخة التي يطلقها الحوثيون على خصومهم في الداخل وفيما وراء الحدود .
ومع مرور الوقت تتضاءل الارتدادات العسكرية والاستراتيجية المفترضة لهذه الصواريخ بالنسبة للحوثيين، قياساً بالكلفة الباهظة التي تفرضها العمليات المعقدة والمحفوفة بالمخاطر على خطوط الإمدادات البحرية والبرية، قبل أن تصل مكوناتها وأجزاؤها، ويقوم خبراء إيرانيون مرابطون في مناطق سيطرة الحوثيين بإعادة تركيبها وتوجيهها نحو الأهداف المحددة .
سيتمكن التحالف من الوصول إلى أهدافه بسهولة، إذ أنه لا يريد أكثر من أن يبقى اليمن مجزأ وموزعاً كتركة ممزوجة بالدم بين المتقاتلين
مُنح الحوثيون مع نهاية هذا العام فرصة للتحكم بمحافظة وميناء الحديدة، وفي المقابل وضعت أمام طموحاتهم للسيطرة على منابع النفط والغاز في مأرب تحديات شديدة الصعوبة، ليبدو حال هذه الجماعة المسلحة كما لو كانت تُسدي بسلوكها المفتقد للرشد؛ خدمة لا نظير لها للتحالف، إذ تصر عبر آلاف الضحايا على تكريس حالة الانقسام الجغرافي والسياسي والاجتماعي وحتى الاقتصادي والنقدي، وتمضي قدماً في تسييج مشروعها بألغام طائفية شديدة الخطورة وفي المحصلة . سيتمكن التحالف من الوصول إلى أهدافه بسهولة، إذ أنه لا يريد أكثر من أن يبقى اليمن مجزأ وموزعاً كتركة ممزوجة بالدم بين المتقاتلين .
ومع الاستدارة الأمريكية التكتيكية السلبية على الحوثيين، من المتوقع أن تتكرس خلال هذا العام الهيمنة العسكرية والسياسية للتحالف في المسرح اليمني، ومعه سترتفع التوقعات بإمكانية وصول هذا التحالف إلى أهدافه الجيوسياسية التي يقوم بتنفيذها بعناية فائقة، حيث يعيد فرض إرادته استناداً إلى عقيدة الصدمة ذاتها التي ينتهجها، وأخذت خلال العام المنصرم شكل تبدلات مفاجئة في مسرح العمليات لصالح الحوثيين، خصوصاً في الساحل الغربي (الحديدة) والمنطقة الوسطى (شبوة، مأرب، الجوف)، وتجلت تأثيرات الصدمة في الانهيار الاقتصادي والمعيشي الذي هوى بمعظم اليمنيين إلى قعر الجوع والفاقة وقلة الحيلة .
يكاد التحالف أن يغلق المحافظات الجنوبية على نفوذ مطلق لصالحه بعد خروج محافظة شبوة من نفوذ الشرعية، ويرتكز هذا النفوذ على دعائم جرى بناؤها طيلة حرب السنوات السبع الماضية، وتعبر للأسف عن شتات من المشاريع والأحلام الجهوية التي يتصدرها المجلس الانتقالي، حيث قامت الإمارات تحت أنظار السعودية، ببناء تشكيلات عسكرية لصالح هذا المجلس، لكنها شديدة التركز المناطقي، حيث ينتمي معظمها إلى المثلث الأكثر فقراً والطارد للسكان، بجنوب غرب اليمن المعروف شعبياً بـ"مثلث الدوم"، نسبة إلى الثمرة التي تنتجها شجرة السدر وهي شجرة تنمو في الوديان الجافة .
مع الاستدارة الأمريكية التكتيكية السلبية على الحوثيين، من المتوقع أن تتكرس خلال هذا العام الهيمنة العسكرية والسياسية للتحالف في المسرح اليمني، ومعه سترتفع التوقعات بإمكانية وصول هذا التحالف إلى أهدافه الجيوسياسية التي يقوم بتنفيذها بعناية فائقة
وقامت السعودية وبتنسيق مع الإمارات أيضاً بإنشاء تشكيلات مقاتلة مدججة بالأسلحة المتنوعة تحت مسمى "ألوية العمالقة" (سلفية)، والتي دشنت مهمتها في الساحل الغربي منذ عام 2016، قبل أن يتم نقل أعداد كبيرة منها للسيطرة على محافظة شبوة نهاية العام المنصرم، بمبرر طرد الحوثيين من مديريات بيحان، وعسيلان، والعين التي أسقطها الحوثيون مؤخراً بسهولة لافتة وبدون قتال، وعززوا عبرها من فرصهم في الهجوم على مأرب من الناحية الجنوبية، وذلك بعد أن أُجبر الرئيس هادي على تغيير محافظ محافظة شبوة محمد صالح بن عديو .
ولهذا المحافظ قصة محكية في اليمن، فقد دخل في مواجهة تتسم بالندية مع ضباط التحالف، بينما كان يحاول الضغط شعبياً من أجل تحرير ميناء بلحاف لتسييل الغاز الطبيعي الذي يحق عائدات سنوية لخزينة الدولة اليمنية تفوق مليار دولار، وكان يحاول إنشاء رصيف لاستقبال السفن المتوسطة لإفراغ المشتقات النفطية ومتطلبات المنطقة الوسطى من البلاد .
تغيير محافظ شبوة جاء في إطار مخطط أوسع من مجرد تصفية حسابات مع رجل لا تروق له الإمارات، فقد أبقى بن عديو على خطاب متوازن وحصيف وعلى قدر من الاحترام لقائدة التحالف (السعودية)، واضطر لمهاجمة الإمارات؛ لأنه كان يعاني من دورها التخريبي في محافظة شبوة أمنياً واقتصادياً، وسعيها إلى تعطيل جهود السلطة المحلية لتطبيع الأوضاع، رغم أنه يدرك مدى تأثير أبو ظبي السياسي والعسكري على الرياض، وبالتبعية على السلطة الشرعية القابعة في الرياض .
وفي مأرب يمضي التحالف في اعتماد سياسة العصا والجزرة للتعامل مع القوة الصلبة التي تدافع عن مأرب، وتضم أهم وحدات الجيش الوطني الموالي للشرعية ومقاومة شعبية من قوام العشائر التي تقف ظهيراً مهماً لهذا الجيش وتتقاسم معه المخاوف من اختراقات حوثية تمس أمنها وكرامتها ونمطها المعيشي وشبكة علاقاتها الاجتماعية المتوازنة .
يضمر هذا التحالف نوايا ليست جيدة تجاه هذا الجيش، لكنه مضطر لأن يخوض من خلاله معركة استنزاف ضد الحوثيين؛ يتطلع إلى أن تحصد من الجيش قدر ما تحصد من الحوثيين حتى يتمكن من معادلة النفوذ العسكري في هذه المحافظة، عبر وحدات شبه عسكرية بدأت بالانتشار في محافظة شبوة، وهو مطمئن إلى أنها تتحرك وفق منطق "فائض القوة" القابل للتصرف مع جرعة عقدية؛ ارتأى التحالف ضرورة وجودها وإفراغها في مواجهات توصله بأسرع وقت ممكن إلى أهدافه البعيدة كل البعد عن استحقاقات المواجهة الطائفية المزيفة مع إيران .
من الواضح أن الجهد العسكري للتحالف سيتركز هذا العام على الوحدات شبه العسكرية التي أنشأها خارج نفوذ الشرعية في جنوب البلاد وفي ساحلها الغربي، وقوامها وحدات مناطقية جنوبية بنزعة انفصالية ووحدات سلفية بلا هوية سياسية واضحة، لكنها موالية للسعودية، وقوات تشكلت من أنصار الرئيس السابق
من الواضح أن الجهد العسكري للتحالف سيتركز هذا العام على الوحدات شبه العسكرية التي أنشأها خارج نفوذ الشرعية في جنوب البلاد وفي ساحلها الغربي، وقوامها وحدات مناطقية جنوبية بنزعة انفصالية ووحدات سلفية بلا هوية سياسية واضحة، لكنها موالية للسعودية، وقوات تشكلت من أنصار الرئيس السابق، ومن المرجح أن تتجهز هذه الأخيرة للتموضع في مناطق نفوذ الشرعية في المحافظات الشمالية .
وكما تكشف صورةُ التحركات السعوديةَ والإمارات، فإن أهم ما يركز عليه البلدان هو الوصول إلى ترتيبات سيساعد في إنجازها إلى حد ما انصياعُ القيادة الحالية للشرعية، ومن أهم ملامحها فرض قوى الأمر الواقع الحالية على تناقض مشاريعها السياسية، والدفع بها إلى التمركز في جغرافيا يمنية قابلة لإعادة التشكل والانقسام وفق إملاءات وطموحات التحالف والقوى الدولية الداعمة له. ويتزامن هذا المخطط مع انفراجة اقتصادية خجولة وموجة عنيفة من الهجمات الإعلامية البذيئة والمفتقدة للمروءة؛ على معسكر الشرعية ورموزه السياسية والعسكرية من قبل المنظومة الإعلامية للتحالف ومعلقيه السياسيين .
نقلاً من عربي 21