المعارك البرية والجوية الدائرة حالياً في اليمن تكاد تقترب من زخم الحرب التي شنها التحالف العربي في ربيع 2015، حينها كان هدف التحالف ضرب أكبر قدر من ترسانة السلاح التي وضعت للتو بين يدي الحرس الثوري الإيراني عبر فرعه في صنعاء الذي تمثله جماعة الحوثي المسلحة. أما دوافع التحول العسكري في هذه الأثناء فإن منها حاجة التحالف على ما يبدو إلى تسوية الأرضية السياسية التي من شأنها أن تنتج دولة يمنية متسقة مع أهدافه، وتنهي بالكامل أثر الربيع العربي في اليمن، وتقوم على أنقاض المشاريع السياسية الناشئة، كمساعي الحوثيين لإعادة إنتاج إمامة زيدية جديدة بنفس اثني عشري صارخ ومرتبطة عضوياً بإيران، ومساعي المجلس الانتقالي لإعادة سلخ جنوب اليمن عن شماله، وخلق جغرافيا مستباحة من قبل القوى الإقليمية الناشئة .
في خضم الجدل الذي أثارته تصريحات رئيس المجلس الانتقالي الجنوبي عيدروس الزُّبيدي، والتي تضمنت اتهامات لنائب رئيس الجمهورية علي محسن صالح بدعم الإرهاب، وهي اتهامات مستغربة في حقيقة الأمر وغير واقعية، فات المعلقين الغاضبين من تصريحات الزُّبيدي أن يركزوا على أهم فقرة في هذه المقابلة، والتي أجاب فيها عن سؤال من مذيعة قناة الحدث السعودية عن منطلقات المجلس الانتقالي في التفاوض على طاولة المحادثات: هل من خلال صيغة الدولة الاتحادية من ستة أقاليم والتي أقرها مؤتمر الحوار الوطني، أم دولة فيدرالية من إقليمين؟ أم من خلال المطالبة بالاستقلال التام للجنوب؟
كانت إجابة الزُّبيدي هي أن البرنامج السياسي للمجلس الانتقالي يتضمن ثلاث خيارات يجب أن يقرها شعب الجنوب، الخيار الأول: استعادة الدولة التي كانت قائمة عند حدود ما قبل 22 أيار/ مايو 1990، الخيار الثاني: دولة اتحادية من إقليميين، والخيار الثالث: البقاء ضمن الدولة بصيغتها الحالية .
الحقيقة أن هذا الموقف يمثل تطوراً بالغ الأهمية في خطاب ومواقف وأجندة المجلس الانتقالي وداعميه الإقليميين، ويحيلنا إلى طبيعة الطبخة التي تنضجها دولتا التحالف، بتنسيق مع المتدخلين الدوليين، وبالتحديد الولايات المتحدة الأمريكية وربما مع الأمم المتحدة ومبعوثها إلى اليمن، إذ يجري كل ذلك خلف الدخان الكثيف المتصاعد من المعارك الدائرة، وبعيداً عن مشهد الحرب الذي يتسم بتحولاته الدراماتيكية وعدم وضوح أهدافه، ويعاني من الانتقائية التي يمارسها التحالف في جانب تسليح شركائه لصالح التشكيلات المسلحة التي نشأت خارج السلطة الشرعية، وكيف يجري تحريكها في مسرح العمليات، وإظهارها بمظهر الكيان العسكري الموثوق الجانب والمقتدر .
هذا يفسر لماذا غاب الحديث عن تنفيذ اتفاق الرياض، ولماذا تحول رئيس المجلس الانتقالي الجنوبي إلى عهدة سياسية مستديمة لدى الرياض؛ مثله مثل الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي، ولماذا أطل عبر فضائيات سعودية وإماراتية من الرياض في هذه المرحلة بالذات؛ والتي تشهد تحولاً عسكرياً على مستوى الميدان والأدوات والنوعية في انتقاء الأهداف، خصوصاً في المعاقل الآمنة للحوثيين .
أطلق الرجل ليطلق تصريحات متفق عليها وتعكس طبيعة الإملاءات التي يتلقاها، خصوصاً أن جزءا من هذه التصريحات تصب في خانة الإساءة إلى شخصيات بارزة في السلطة الشرعية. والإشارة هنا تحديداً لنائب الرئيس، في توجه مقصود من قبل الرياض وأبو ظبي نحو إخلاء موقع نائب الرئيس، تمهيداً لتسليمه لشخصية شمالية من بين عدة شخصيات مرشحة لهذا المنصب وجرى إعدادها وتسليحها ومنحها سلطة أمر واقع على الأرض، ليظهر أن الإطاحة بنائب الرئيس قد تمت بتأثير تصريحات رئيس المجلس الانتقالي الجنوبي، وحينها سيبدو التراجع عن الانفصال الفوري خيار من يمتلك القوة على فرض خيارات أخرى .
الإبقاء على الدولة اليمنية بصيغة جديدة، هو الخيار الذي يمضي فيه التحالف مجبراً لا مخيراً، إذ أن المضي في تفكيك اليمن ستكون له مخاطره الجمة على اليمن والبلدين والمنطقة لسببين أساسيين، الأول: لأن تفكيك الدولة اليمنية سيُبقي الحوثيين قوة مسيطرة بالكامل على الجزء القوي من اليمن، والثاني: سيفتح المجال لتدخلات خارجية لا نهاية لها على الجزء المفيد المتبقي من اليمن . وفي كلتا الحالتين، لا يمكن أن تضمن دولتا التحالف أمنهما واستقرارهما مع وجود قوة في اليمن تتحكم بها إيران، كما أنهما تدركان أن ظهورهما بمظهر من استباح جنوب اليمن مستغلاً ضعفه؛ سيعرضهما للانكشاف على المستويين الإقليمي والدولي لأنهما ألحقتا الكثير من الضرر بالشعب اليمني على مدى عقد من الزمن، مقابل أن تصلا إلى أهداف جيوسياسية وأطماع صارخة في الجغرافية اليمنية .
ما من شك أن أي تحول في الموقف العسكري والسياسي والاستراتيجي للتحالف، سيكون إيجابياً إذا تضمن في طياته هدف إنهاء سلطة الأمر الواقع الحوثية في صنعاء، وهو هدف سهل التحقيق لأسباب موضوعية؛ أهمها أن الحوثيين رغم كل ما بذلوه خلال الفترة الماضية، لا يستطيعون أن يراهنوا على صبر الحاضنة الاجتماعية أو إخلاصها أو تفانيها، إذا شعرت هذه الحاضنة أن مدداً قتالياً حقيقياً يتوفر للإطاحة بسلطة الحوثيين، فالأصل في موقف الحاضنة الاجتماعية أنها ترفض سلطة الحوثيين بنسبة كبيرة جداً، وأنها وقعت ضحية الخديعة التي مارسها علي عبد الله صالح لتسويق الحوثيين حينما كان يخطط لاستعمالهم من أجل استعادة السلطة من يد الشعب اليمني .
وخلاصة القول، إن المؤشر القوي على رغبة التحالف في احترام وحدة اليمن، يمثل مدخلاً جيداً للحسم على أساس الضمانة الكاملة للأمن الإقليمي، ويتيح المجال لتدشين مرحلة جديدة من التكامل بين دولتي التحالف واليمن الموحد والمستقل وكامل السيادة، وهو أمر ستتحول معه الأطماع الجيوسياسية العبثية الراهنة إلى مشاريع اقتصادية مستقبلية وشراكات ضخمة ومستدامة؛ يجني ثمارها اليمن ودول الجوار سواء في باب المندب أو عدن أو سقطرى أو المهرة .