الحلقة الثامنة
.. في اليوم التالي انتظرت اقبال لكنها لم تأت أطبق على المكان صمت رهيب وموحش داهمني القلق وهجمت علي الهواجس والظنون وطرقت الباب عدة مرات وبقوة ولكن دون جدوى وصرخت بأعلى صوتي لعل أحد يجيبني ولكني لم أسمع سوى صدى صوتي لا أحد هنا سواي يا الله سترك بي لقد نساني العالم كله وذهبت إلى تحت النافذة الصغيرة حيث تلقي لي اقبال منها بالطعام والسندويتشات وأعواد القات وعلب ماء الشرب ووجدت أن اقبال قد ألقت لي ورقة صغيرة مكتوب عليها " قتل القائد اليوم في الحرب مع الحوثيين والحمد لله على كل حال وسأذهب إلى رؤية جثمانه وسأبيت الليلة في البيت الكبير فالعزاء سيقام هناك وسأحاول العودة إلى هنا غدا " .
يا الله لقد قتل القائد لقد استجاب الله دعائها لكن كيف سيكون مصيرها بعد مقتله ؟ !
وكيف سيكون مصيري أنا ؟ !
وماذا لو نسوني هنا ؟ !
تساؤلات كثيرة حاصرتني وصنعاء تمطر والاجواء غئمة ملبدة تنذر بما هو أسوأ ..
بقدر ما شعرت بارتياح وفرحة بهذا الحدث وبأنني حيث بدأت أقترب من الأحلام والأمنيات التي في ذهني بقدر ما توقعت أسوأ الاحتمالات لقد احتفلت بمقتل هذا الرجل دون أعرف من هو ؟
لقد كونت في ذهني صورة له مما حكته لي إقبال وبنيت على أساس هذه الصورة القاتمة حكمي عليه ومشاعري نحوه ومهما يكن فقد رحل الرجل الذي أقبع في بدرومه رحل وتركني هنا لمصيري المجهول وعموما لماذا سأضاعف مواجعي وآلامي ويكفيني ما انا عليه من إخفاء قسري في بدروم بارد وينتظرني مصير مجهول بعد أشهر من الاعتقال الغامض ؟ !!
وتركت الأمر لله وتوكلت عليه فكرت حينها بأن أمي لو رأتني لن تعرفني فأنا وإن كنت وإذا كنت أستطيع غسل ثيابي في هذا البدروم إلا أن شكلي بدأ يتحول إلى شكل مخيف فعلا وبات قريبا من شكل أهل الكهف صرت اشعث أغبر لقد طال شعر رأسي وشعر لحيتي وذقني وتهدل ولو خرجت الآن لخاف من رآني ولأعتقد أنني عفريت من الجن والله يجازي الذي كان السبب والله لن أسامحه وعند الله يجتمع الخصوم وهو الحكم العدل .
وفي اليوم التالي انتظرت اقبال ولم تأت ولم أسمع لا حس ولا خبر بالبيت ولا حتى بمحيطه لا شيء سوى الأصوات الخافتة لنباح الكلاب في الليل وللسيارات التي تمر من بعيد مسرعة وهاجمني الجوع واجتاحتني خرمة القات لقد حولتني إقبال إلى مدمن كبير على أوراق هذه الشجرة وصرت متفهما لوضعي فأنا سجين وأحاول أن أنسى بـ " الكيف " ونشوة القات وضعي المزري وليس لي سوى الشرود ورحلات الخيال وحديث إقبال حين تأتي وتذهب كأنها حلم جميل قرأت كل أعداد مجلة العربي وقرأت بعضها لعدة مرات حتى كدت أحفظها عن ظهر قلب وحتى طفولتي في القرية وأيام الدراسة عدت إليها ومررت عليها ببطء لأنسى وضعي ، أعدت قراءاتي لكثير من أحداث حياتي ولما يجري حولي من أحداث ومواقف وتغيرات وضعت وجوها عديدة لغدر بعض الزملاء وتنكر بعض الأصدقاء وظلم بعض ذوي القربى والتمست لهم الأعذار ثم وضعت نفسي في موقفهم وأعدت قراءة الوضع وتأمل الصورة انتقمت من بعضهم وسامحت آخرين ونصبت محاكم قاسية للبعض وسجنت العشرات منهم وأطلقت سراح آخرين وكنت القاضي والخصم والحكم ، ووسط كل هذه الأسفار في والأحداث والوقائع التي جرت في ذهني ودارت رحاها في خيالي وأنا في بدروم السجن الغامض كانت صورة أمي تشرق كقمر 14 الذي ينير ليلي المتواصل أنا " إبن أمي " وأفتخر بهذا فأمي مثل شلال متدفق من الطيبة والحنان والفطرة النقية ما يؤلمني ويحز في نفسي أنها لا تعلم بمصيري وتعيش الآن جحيما بسبب غيابي الغامض عنها ليت إقبال تسديني معروفا وتتصل بها وتطمئنها علي لكن أمي لن تظمئن حتى تسمع صوتي أنا ولو أن الثلاثة المليون النسمة الذين يسكنون صنعاء أتصلوا بها ليطمئنوها علي ما أطمئنت إلا عندما تسمع صوتي يا الله ألطف بها يا كريم .
وقطع علي خيالي وأفكاري صوت باب البدروم يفتح فنضهت صارخا وأنا أرتجف :
ــ من ؟
ــ إقبال لا تخاف يا أستاذ محمد
ــ لحظة ماذا تريدين ؟
ــ أفتح لك تخرج من البدروم خلاص سأطلق سراحك الليلة لقد حصلت على مفتاح هذا البدروم بصعوبة كبيرة جدا .
ــ هل أنت لوحدك في المكان ؟
ــ نعم لوحدي حتى الشغالة أرسلتها عند قريبتها
ــ هل تريدين مني أن أخرج وأنا بهذا الشكل ستموتين خوفا لو رأيت شكلي
ــ ليش ؟
ــ لي شهور في هذا البدروم وشكلي صار مخيف جدا أنا لم أحلق شعري منذ 4 أشهر على الأقل ولكن هاتي لي أولا ثياب وماكينة حلاقة ومقص وصابونة وشامبوه ومرآة وضعي كل هذه الأشياء جوار الباب وأنا سآخذهن وبعد أن أصلح نفسي سأخرج من البدروم .
كنت أحلق شعري وأغتسل في حمام البدروم وأنا أرتجف من الجوع والخوف وبعد أن تأكدت أن شكلي أصبح آدميا خرجت من البدروم وأنا لا أكاد أصدق أنني خرجت فعلا كنت منبهرا بالقصر الذي خرجت من بدرومه أنه قصر بكل معنى الكلمة وكأنني أعيش في حلم وأطلت إقبال من فوق ونادتني :
ــ تعال إلى هنا إلى فوق
وصعدت الدرج المفروشة بالموكيت الفاخر وأنا أكاد أتعثر لقد انتقلت من جهنم إلى الجنة فجأة لا يوجد وصف ينطبق على وضعي غير هذا الوصف ، والله وحده يعلم كيف كان حالي ومشاعري التي كانت خليط من الفرحة والخوف والارتباك والذهول وصلت الدور الثاني وسمعت صوتها تناديني فتبعت صوتها ودخلت إحدى الغرف فوجدت مائدة طعام بها وجبة فاخرة وجاءت إقبال فارتبكت حين رأيتها لأول مرة ولم أدر ماذا أفعل أحييها من بعيد أم أصافحها رأيتها كأنها حورية في حلم وكان جمالها فوق الوصف وقلت في نفسي " معه حق القائد يخطفها إلى هنا هذه أميرة فعلا " .
وفوجئت بها تمد يدها وتصافحني وأنا أتعرق خجلا فضحكت وتعجبت من حالي وقالت بثقة :
ــ المفروض أنا اللي أخاف منك وأستحي وأخجل لأنك رجل غريب عني مهما عرفتك من وراء جدر ومهما حدثتني عن نفسك لست أنت الذي تستحي مني لكن الوضع صار معكوس عموما الحمد لله على سلامتك ومبروك على حريتك أخيرا ؟ !
ــ صحيح أنت مش خائفة أن أي واحد ممكن يجي ويشوفني معك ؟ !
أخبرتني إقبال أن لا أمني نفسي بالسمر معها الآن في هذه الظروف لأن جموع المعزين سيأتون بعد قليل وأنني سأغادر صباح غدا بعدما تتصل هي بالحراس وترسلهم كلهم في مهمات وترسل الحارس الشيبة يطلع أشياء من البدروم الثاني وأنا حينها أتسلل أخرج إلى حال سبيلي وربنا يستر علي وحينها فقط بدأت أطمئن وأتذوق فخامة السمر في جو كهذا لم يخطر لي يوما على بال .
آآآآه من حيل النساء ومكائدهن وألاعيبهن ..
أكلت واتصلت بأمي لتطمئن علي وأقسمت لها أنني بخير وسأسافر غدا إليها فأجهشت أمي في البكاء .
قالت إقبال حين بكيت لسماعي صوت أمي :
ــ طالما أنت تطيع أمك وتحبها هكذا فثق أن الله لن يضيعك .
بعد العشاء أعطتني أربع حزم قات فاخر ثم طلبت مني العودة الذهاب إلى البدروم وأخذ المفتاح معي لأن أقاربها وأقارب زوجها سيأتون لكي للعزاء .
لا أخفيكم كنت أتمنى أن أسمر مع إقبال وأن أحكي لها تفاصيل شتى عن حياتي وأسرتي وقريتي الصغيرة التي تنام في أقصى ريف محافظة إب الخضراء وأحدثها عن رؤيتي لكثير من الأمور والأحداث ، كنت سأتحول إلى شاعر في بلاط أميرة أسطورية ، سأسترق النظر إلى وجهها ولن أنظر إلى صورة القائد العسكري المعلقة على الجدار فقد عرفته أخيرا في منزله بعد أن رأيت صوره لسنوات في الصحف .
أثناء مغادرتي رشقته بنظرة سخرية فقد انتصرت عليه دون ان يدري وقد وطئت فراشه وتناولت العشاء مع زوجته وهو تصرف أجهل ما هي عقوبته لو أطلع عليه لكن من المؤكد أنها ستكون سادية أكثر مما أتصور ولكنني سموت على الجراح فمهما ظلمني ورماني في غياهب السجن فقد كنت نبيلا وخلوقا وراعيت حرمته ولم أفكر مجرد تفكير بسوء قد يخصم من رصيدي في النبل والأخلاق .
عدت إلى البدروم وأنا في عالم آخر ، عدت إلى البدروم بكل رضا وسرور ، في المرة السابقة دخلته مخطوفا معصوب العينين وفي هذه المرة أعود بطلب من إقبال وهذا يكفي .
وطوال الليل لم أقرأ حرفا ولم أفكر بشيء سوى إقبال وأكذب عليكم لو قلت غير ذلك ، كان جمالها قد بهرني تماما وظلت صورتها مشغولة في ذهني ولولا أنني سمعت أصوات القادمون من الرجال والنساء لغادرت البدروم إليها ، لقد جننت فعلا وصرت لا أريد من الدنيا شئيا سوى النظر إلى وجهها .
في الصباح طرقت علي البدروم فغادرت لأجد أنه لا أحد في البيت ، تناولنا الفطور ، كنت مرتبكا وأنا أسترق النظر إليها وبعد الإفطار ، أتصلت اقبال للحراس وكلفتهم بمهام عديدة ثم نادت :
ــ يا عم علي
فجاء الحارس العجوز وسمعتها وأنا أتخفى خلف الباب تحدثه عن أشياء يجب إحضارها من البدروم وعندما غاب أسرعت وناولتني مظروف فيه رزمة من النقود وودعتني فأخذت المظروف وشكرتها وأسرعت خارجا أتلفت يمنة ويسرة ومضيت إلى شقتي وأخذت أبعض أشيائي الهامة وانطلقت نحو القرية في إب وأنا لم أنم بعد .
******
يتبع في الحلقة القادمة ..