حكى عباس العقاد أنه – في شبابه – ذهب مرة في حملة انتخابية لصالح حزب الوفد إلى صعيد مصر في سوهاج وأسيوط ومنفلوط وغيرها من مناطق الصعيد، حيث صادفه، في أحد المراكز الانتخابية، مرشح “خطير”، استطاع الحصول على تأييد عدد كبير من الناس لانتخابه، وكاد أن يسحب البساط من تحت أقوى الأحزاب المصرية حينها، وهو حزب الوفد .
وكان سبب نجاح ذلك المرشح – حسب العقاد – أنه أخبر القرويين وأبناء الريف أنه “ مرشح الله”، وكان يذيل اسمه في لافتاته بعبارة “مرشح الله”، بدلاً من كتابة اسم حزبه السياسي إن كان منتمياً سياسياً، أي أنه كان يرى نفسه مرشحاً لله وليس لحزب سياسي. أما وسيلته في إقناع الناخبين بأنه مرشح سماوي فهو الاستناد إلى علم التنجيم والرمل وحساب الجُمَّل، حيث أشاع بين عامة القرويين بأن حروف الجُمّل في اسمه تضاهي – في الحساب – حروف الجُمّل في عبارة “مرشح الله”، وهو الأمر الذي لقي به هذا المحتال رواجاً جماهيرياً كبيراً كاد به أن يطيح بمرشح الحزب الأقوى في مصر حينها .
يقول العقاد إنه وقتها استذكر بعض مطالعاته في حساب الجُمَّل، في محاولة لقلب الطاولة على “مرشح الله”، فبدأ العقاد أمام الجمهور يخط على الرمل، ليقول بعدها إن حروف الجُمّل لاسم هذا المحتال تضاهي – في الحساب – حروف الجُمّل لعبارة “مرشح يهان”، وخاطب العقاد جمهور الناخبين بأن المرشحين كالمتقدمين للامتحان، وأنه في يوم الامتحان “يكرم المرء أو يُهان”، وأشار إلى أن علم الرمل والتنجيم يشير إلى أن هذا المرشح سيهان ويهزم في الانتخابات، وهي الحيلة التي تمكن بها العقاد من صرف الجمهور عن “مرشح الله” إلى مرشح الوفد .
تذكرت حكاية العقاد تلك وأنا استعرض أسماء بعض المكونات السياسية والميليشاوية – في منطقتنا – التي أرادت أن تسحب الجمهور من عاطفته الدينية لأهدافها السياسية، مثل : “ حزب الله، وثأر الله، وبقيَّة الله، ورَبْع الله، وأهل الله، وأنصار الله”، وكل من أضاف نفسه إلى الله في تسميات تعكس القصة القديمة عن “ظل الله، وسلطان الله والقائم بأمر الله والحاكم بأمر الله”، وغيرها من ألقاب سياسية تدثرت بالمقدس لإضفاء مشروعيّات دينية على وجودها السياسي، ولكي تنسب أفعالها إلى الله مباشرة على أساس أن ما تقوم به ما هو إلا تنفيذ لإرادة الله، على اعتبار أنها تمثل الله على الأرض، أو أنها “انعكاس لإرادة الله” وتنفيذ لـ”حكم الله” الذي لا يجوز لأحد أن يخالفه .
يستدعي مسمى “حزب الله” – مثلاً – النظير التقابلي في الذاكرة الدينية، وهو “حزب الشيطان”، ليكون هذا المكون السياسي الميليشاوي محفوفاً بدائرة المقدس في كل أفعاله المنسوبة إلى الله، فيما يندرج خصومه السياسيون ضمن دائرة المدنس في كل أفعالهم التي ينسبها هذا الحزب الإلهي إلى الشيطان .
والحقيقة أن هؤلاء الانتهازيين السياسيين الذين ينسبون أنفسهم إلى الله لا يختلفون كثيراً عن “مرشح الله” الذي استعان بالتنجيم وضرب الرمل وحساب الجُمَّل، ليخدع الناس بأنه يستحق أصواتهم، لأنه مرشح الله في حين أن منافسه ما هو إلا مرشح الوفد، وبطبيعة الحال، هناك فرق كبير بين “مرشح الله” ومرشح الوفد أو مرشح الشيطان، يقاس بالفارق الكبير بين الله من جهة والوفد أو الشيطان من جهة أخرى .
وهنا يمكن الوقوف على حديث نبوي بالغ الدلالة يضع حداً فاصلاً بين “حكم الله” الذي هو “حقيقة مطلقة لا يجوز عليها الخطأ”، و”حكم الإنسان” الذي يعد “اجتهاداً نسبياً في محاولة للوصول إلى الحقيقة المطلقة”. يقول الحديث: “إذا حاصرتَ أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله، فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك. فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا ”.
هذا التمييز الواضح بين “حكم الله” و “حكم الإنسان” مبني على أساس التمييز بين المقدس وغير المقدس، بين ما يمكن أن ينسب لله وما ينبغي أن ينسب للإنسان، وهو مقصود لوضع حد فاصل بين الإله الخالق مطلق الحكم والإنسان المخلوق نسبي الأحكام، وقد ظلت النصوص الإسلامية تدين كل من يحاول إسقاط هذا الحد، بغية خلط الأمور، والاستغلال السياسي والاقتصادي للدين، أو استغلال اسم الله المقدس بنسبة المدنس إليه .
ولكي ندرك مدى خطورة خلط الأوراق الذي تقوم به بعض الجماعات الدينية يمكن مطالعة تقارير كثيرة عن فساد “خاتم الأنبياء”، لنعرف حجم الدمار الذي يطال الرموز الدينية جراء توظيفها لخدمة أجندات غير دينية وغير أخلاقية، ذلك أن الاتهام أعلاه مرتبط ظاهرياً باسم نبي الإسلام عليه السلام، ولكنه في الحقيقة موجه لمؤسسة تابعة للحرس الثوري الإيراني – تحمل اسم “خاتم الأنبياء” – ضالعة في عمليات فساد واسع وتبييض أموال وأنشطة مشبوهة داخل إيران وخارجها، الأمر الذي عرضها لعقوبات دولية .
وبطبيعة الحال، لا يعني ذكر مكونات سياسية أو ميليشاوية تتبع “الإسلام السياسي الشيعي” أن التسييس مرتبط بهذا الخط في الإسلام، أو أن التسييس مرتبط بالإسلام تحديداً، بل التسييس ظاهرة مرتبطة بشكل عام بالأديان والمذاهب المختلفة، غير أن “الفكر السياسي الشيعي” في نسخته الأصولية، وبنائه النظري يُسهِّل عمليات التسييس، نظراً لكونه جعل “الإمامة أو قيادة الأمة” أصلاً من أصول العقيدة الدينية يكفر من ينكرها، لأنها “اختيار إلهي”، على العكس من المذاهب الإسلامية الأخرى التي ترى الإمامة أو الخلافة ضمن الفروع المتروكة لـ”الاختيار البشري ”.
وبذا ينحو الفكر السياسي الشيعي منحى الفكر السياسي الكاثوليكي، في العصور الوسطى، حيث تقوم العلاقة اليوم بين المرجعية الشيعية والسلطة السياسية والعسكرية في إيران مقام العلاقة القديمة بين الكنيسة الكاثوليكية والمؤسسة الملكية في أوروبا العصور الوسطى، في وضعية يتناظر فيه المرشد الأعلى أو “ نائب الإمام” في جمعه بين السلطتين الدينية والسياسية مع منصب الملك الذي كان ينظر إليه على أساس أنه “نائب المسيح”، قبل أن تنفصل العلاقة الملتبسة بين الكنيسة والمؤسسة الملكية، ليصبح “نائب المسيح” أو “نائب بطرس” لقباً خاصاً ببابا الكنيسة الكاثوليكية في روما .
البناء النظري للفكر السياسي الشيعي – إذن – أتاح الفرصة لانتساب مكونات سياسية وميليشاوية إرهابية إلى الله، حتى أن الميليشيا العراقية المسماة “ثأر الله” والمدعومة إيرانياً تقوم بأعمالها الإرهابية باسم “ثأر الله” في إجحاف كبير بحق “لفظ الجلالة” بإقحامه في جرائم قتل وفساد وإرهاب مرتبط بالجماعة، حسب تقارير عراقية ودولية .
ولكي نخلص من هذا الصداع المزمن، لابد لنا من وضع حدود فاصلة بين “الفعل الإلهي” في قداسته ومطلقيته و”الفعل الإنساني” في بشريته ونسبيته، دون أن نسمح لأحد بأن ينسب حكمه أو سياسته أو فعله أو ثأره أو حزبه أو رَبْعه أو جماعته إلى الله، مستنيرين بالحديث أعلاه، وهو بالغ الدقة في مراميه وأبعاده، التي تميز بين “حكم الله” و “حكم الإنسان”، وتوجب رفض نسبة حكم الإنسان لله، لأن الإنسان معرض للخطأ في حكمه، ولا يجوز تصور الخطأ على الله .
وهنا يمكن أن يكف أصحاب الفتاوى التي تمثل رأياً دينياً بشرياً عن القول إن فتواهم هي حكم الله، ويكون كل ما هو مرتبط بالشأن العام داخلاً ضمن دائرة حكم الإنسان، لا حكم الله، لأن الله تولى أمر “سياسة الكون” المُسيَّر، لكنه ترك أمور “سياسة الناس” للإنسان المخيَّر، يديرها وفق محددات “المصالح المرسلة”، كي لا يزعم أحد أنه يمثل الله، أو أن الله أوصى له بالإمامة أو الخلافة، بحكم أن تلك المناصب من شؤون الدنيا وسياستها، والأمر فيها راجع للانتخاب الشعبي، وليس للاختيار الإلهي الذي تركها للناس، ليتسق ذلك مع الإرادة الإلهية في وجود “الإنسان الحر في اختياراته والمسؤول عن أفعاله ”.
وهنا ينتهي وجود “مرشح الله” من قاموسنا السياسي، لتظل العملية الانتخابية سباقاً ديمقراطياً بين مرشحين سياسيين، لا يوجد فيهم من يدعي انتساباً إلى الله، وإن وجد عومل معاملة الدجالين والمشعوذين والمنجمين الذين يدَّعون قراءة الرمل والكف، إمعاناً في خديعة الناس بألعابهم البهلوانية التي طالما شهدناها في الصراعات السياسية والعسكرية في منطقتنا الموبوءة بنسخ كثيرة من “حزب الله و”مرشح الله”، ولا حول ولا قوة إلا بالله .