لازالت قافلة الزملاء والأصدقاء تتنازل عن أثقالها يوماً اِثر يوم، في مشهدٍ لا أدري إذا كان يدعو إلى البكاء أم التأمُّل !
فهاهم الأصدقاء والزملاء يتقاطرون - في عَجَلةٍ عجيبة - إلى حديقة الموت .
بعضهم عن مرض.. وبعضهم عن وَهَن.. وبعضهم عن وطن .
وفي معظم الحالات، أتراهم لا يجدون الوقت للسلام الأخير والوداع الكسير .
ولن يكون الفقيد العزيز محسن يسلم - الذي غادرنا موجوعاً قبل قليل أيام - آخرهم على الإطلاق
فجأة، أجدني وقد وقفتُ عند عتبة بوابة الستين. هذا الرقم الذي صار يشير إلى قُرْب احتضان عروس الموت في هذا البلد - المقبرة .
محظوظ هو ذاك الذي يبلغ السبعين في اليمن. ومن يبلغ الثمانين هو -بلا أدنى شك- من أحباب الله المُقرَّبين .
أما الستين فهي سنّ الرحيل إلى الضفة الأخرى من الحياة .
ألم تسمعها دائماً تُقال: في ستين داهية؟ ..
لم يقل أحد يوماً: في سبعين أو ثمانين داهية !
ألم تأتِ الحروب والكوارث.. وتأتِ الأمراض والأوبئة.. ويأتِ سوء التغذية .. وتأتِ السلطات والأنظمة.. ويأتِ حُكّام الغفلة وحكومات الرفلة.. وتأتِ عشرات الأسباب والعوامل التي تُؤهلك كمشروع راحل. في وطن أحرق عليك جميع المراحل.. وها أنت مُغادر إلى العالم الآخر حتف أنفك، في وداعٍ على عَجَل أو سلامٍ مُثخَن بالوَجَل .
.....
ها أنت تنظر في مفكرة الهاتف، مُستعرضاً الأسماء والعناوين والأرقام، فتذهل لعدد من رحلوا، ونسيت أن تشطبهم من المفكرة، ثم تُقرّر أن تتركهم هناك للذكرى أو العِبرة أو المحبة، حتى الخصوم - بل الأعداء - تحبهم بعد رحيلهم .
وتكتشف - يا للهول! - أن الراحلين أكثر عدداً من الباقين على قيد العيش. ويزداد ألمك وحزنك وكمدك حين يكون معظم من رحلوا هم أجمل وأنبل وأفضل من عرفت في حياتك .
- لا يترك الله القُبح يترعرع في مراعينا إلاَّ لحكمة .
ولا يقصف عمر رموز الجمال والحكمة إلاَّ لحكمة .
هذا ما يقوله دائماً الحاج درهم الدقّام، لكنه يعجز دائماً عن الإجابة عن سؤالنا: وما هذي الحكمة؟
لا يهم. المهم أن معظم من رحلوا كانوا يتّصفون بالجمال والحكمة، أكثر بكثير من أولئك الذين بقيوا حوالينا، يُنكّدون علينا، ويُزيدون حيواتنا قُبحاً وقِيحاً أكثر مما هي عليه !
.....
غير مرة، كتبتُ بيان نعي أو خطابا عزائيا، وغير مرة، كتبتُ وصيتي الأخيرة. وغير مرة، أعود فأعدّل.. وأشطب.. وأضيف .
وغير مرة، أكتشف أنني بتُّ أتهيّأ لاحتضان تلك العروس الفاتنة دونما تهيُّب ولا قشعريرة .
فقد صار الموت سيرة يومية عادية جداً في هذا البلد .
وصارت المقبرة مشهداً تقليدياً عابراً جداً في حياتنا المكرورة كنافورة تتوسط حديقة مهجورة .
فلا يمرّ يوم من دون سماع نبأ عن رحيل قريب أو صديق أو زميل أو جار، أو غيرهم ممن كان لهم له مكان أو مكانة في قلبك أو وعيك أو محيطك الضيق.. وتكون متأكداً أن في الغد ثمة خبر آخر عن شخص آخر سيرحل هو الآخر.. وقد صارت عبارات العزاء والرثاء أكثر ما تجيد قوله أو كتابته في عاديّ أيامك وعاتيها .
وإذا قُدّر لي أن أنعيني وأرثيني، قد أنسى أموراً كثيرة مرت في سلسال حياتي.. لكنني لن أنسى البتة أن ألعن كل الحقراء الذين عكّروا صفو حياتنا ذات يوم .
وعدد من الذين يقرؤون هذي السطور الآن، تتنزّل لعنتي ساخنةً على رؤوسهم.. وأدري أنهم يشعرون بها، ثم يُعيدونها إليَّ !
نقلاً عن موقع قناة بلقيس