دخلت الأيديولوجيا كل شيء، دسَّتْ أنفها في كل اتجاه، أصبحت هي الإخراج الفلسفي للميول والتوجهات، وغدت الإطار الأكاديمي للمعتقدات والأفكار، تصرفت في المذاهب والأديان، وبررت للسياسات والصراعات، وغدتْ وسيلة الكثير من الغرائز والنزعات، لشرعنة توسعها وانتشارها، وكلما تحركت ميول أو غرائز معينة لجأت للأيديولوجيا، لتخرجها في عرض منطقي مقبول لدى الجمهور، ولكي تكون هذه الأيديولوجيا وسيلة ناجعة في ترهيب المعارضة والتسويق للموالاة .
ومن طبيعة التحولات الاجتماعية والاقتصادية، إلى تعقيدات التيارات الفلسفية والفكرية، إلى الحركات النسوية إلى النزعات الغرائزية والتوجهات المثلية المعاصرة تلعب الأيديولوجيا دور المشرعن الذي يقولب النزعات والغرائز والميول في أنساق مثالية، بإطار فكري، وحامل أيديولوجي لكل تلك التوجهات المتوالية من الرأسمالية والشيوعية إلى الوجودية والعبثية، إلى الحركات النسوية وصولاً إلى التيارات المثلية التي تحاول اليوم أن تتحول إلى أيديولوجيا أقرب ما تكون إلى العقائد الدوغمائية التي تعتمد تكتيكات تندرج تحت ما يمكن تسميته بـ«الإرهاب الأيديولوجي» الذي يوظف كل المنصات لدعم موالاته وترهيب معارضته، باختراق المؤسسات الحزبية للتأثير على السلطة السياسية، والمؤسسات الدينية لتطويع الخطاب الروحي، والمؤسسات التشريعية، لضمان «قوة القانون» والمؤسسات التربوية، لتدجين الأجيال المقبلة، والمؤسسات التجارية لتوظيف رأس المال، والمؤسسات الحقوقية للعزف على وتر المظلومية وحقوق الإنسان، ناهيك عن توظيف دوائر إعلامية وأكاديمية مؤثرة، لترسيخ تلك «الأيديولوجيا المثلية» التي تحولت خلال السنوات الأخيرة إلى استعمال أقوى أسلحتها، لتحقيق أهدافها التي تحاول فرضها بقوة السياسة والدين والقانون والاقتصاد والكلمة والصورة، وكافة وسائل «الإرهاب الناعم » الذي يحاول أن يفرض توجهات أقلَّوية على الأغلبية في كل المجتمعات، بتكتيكات تقوم على رفع شعار الدفاع عن حقوق الأقليات، من أجل طمس حقوق الأغلبية، والمناداة بالتعددية من أجل الوصول للأحادية المنفردة .
واليوم تعاني الكثير من الشرائح المجتمعية ـ في الغرب تحديداً ـ ترهيباً لا يقل عن ترهيب الحركات الأيديولوجية السياسية التي تحاول تدجين المواطنين ضمن إطار سياسي وفكري واحد، حسب التوجهات السياسية للسلطات الحاكمة. لقد أصبح ملايين الآباء والأمهات قلقين إزاء محاولات «إصلاح المناهج الدراسية» بما يتواءم مع الشعار الأيديولوجي لـ«حركات الرينبو» فيما غدا كثير من الكتاب والباحثين والفنانين والرياضيين والساسة وغيرهم يخشون الخوض في هذا الموضوع الذي أصبح الحديث عنه مشوباً بالمخاطر التي يتعرض لها من يتحدث عن اللاسامية والهولوكوست وغيرها من «التابوهات» السياسية والأيديولوجية التي يمنع الاقتراب منها .
إن الحديث عن أدلجة التوجهات المثلية، أو أدلجة الغرائز ليس بالحديث الذي يندرج ضمن التكهنات والشكوك، ولكننا مع تلك التيارات أصبحنا إزاء حركات أيديولوجية بامتياز، حركات لها راية أطلقت عليها اسم «راية الفخر» تحوي ستة من ألوان الطيف، وهي راية مخاتلة يسعى من يرفعها للإشارة إلى ضرورة استيعاب المثليين ضمن مجتمعات تعددية ديمقراطية متسامحة، فيما تتجه تلك الحركات ـ سواء اعترفت أم لم تعترف ـ إلى تعميم رؤيتها الأحادية الديكتاتورية غير المتسامحة، مستخدمة منظومات ضخمة من المؤثرات السياسية والتشريعية والاقتصادية والسياسية والثقافية والتربوية والفنية، مع التأسيس لبيئة يتم فيها ملاحقة كل من يُشَك في مناوأته لتلك الحركات، أو كل من لا يظهر له موقف واضح في تأييدها، في استراتيجية مرعبة تهدف، لا لإخراس الأصوات المغايرة وحسب، بل لفحص نوايا الفئة الصامتة، ضمن ما يشبه محاكم تفتيش معاصرة، وبأساليب ناعمة .
إنها أيديولوجيا مكتملة الأركان تدرجت مصطلحاتها من استعمال تسميات مثل: «الجنس الثالث» قبل «الثورة الجنسية» في الستينيات، وهي التسمية التي تُركت لإيحاءاتها السلبية بمغايرة هذا الجنس لباقي الناس، لتحضر بعد ذلك مصطلحات « مجتمع الميم» مثل (مثلي ومزدوج ومتحول) أو مقابلها في الاختصار اللاتيني : (LGBT) وصولاً إلى اتخاذ شعارات ورايات وأنساق فكرية وتيارات سياسية ومناهج دراسية وفنون وآداب وخطاب فلسفي، ووسائل تتنوع من الفصل الدراسي والقصص المصورة للأطفال إلى «مهرجانات الفخر» الموسمية الضخمة التي تجوب شوارع كبريات مدن العالم .
ولم تكتف تلك الحركات بالأيديولوجيا لإضفاء مسحة منطقية على ميولها، ولكنها تحاول توظيف البيولوجيا لإضفاء القطعية العلمية، وذلك بمحاولة الاستفادة من فرضيات «الحتمية البيولوجية» على اعتبار أن خصائص الإنسان النفسية والذهنية تحملها التركيبة الجينية وأحماض الـ«دي أن أيه» وبالتالي فإن ميوله الروحية والفكرية والجنسية هي شيء من «الفطرة الجينية» التي ليس للأفراد إزاءها حول ولا قوة، ولا تدخل ضمن المحظورات في السلم القيَمي، لأن هذه الحتميات البيولوجية هي التي تحكم سلوك الإنسان الذي يُفسَّر بمجموعة من التفاعلات الكيميائية الناتجة عن تركيبته الجينية، لا اختياره الشخصي .
تكمن خطورة هذه الفرضيات في أنها يمكن أن تفضي إلى تبرير جرائم القتل والسرقة والجرائم المالية والاتجار بالمخدرات وغيرها، على اعتبار أن كل تلك الجرائم هي سلوكيات ناتجة عن عوامل بيولوجية ليس للإنسان يد في تركيبتها الجينية وصياغة أحماضها النووية، وهو أمر يصعب الاعتقاد به، كما يصعب الاعتقاد بأن الميول الجنسية الأحادية أو المتعددة موجودة في التركيبة الجينية، حسب فرضيات غير مضطردة يطرحها المروجون لمقولات «الحتمية البيولوجية» المفترضة .
إن التبرير البيولوجي لا يعدو كونه حيلة أيديولوجية تتذرع بها التيارات المثلية لدعم توجهاتها بفرضيات بيولوجية مجتزأة وغير متسقة، في محاولة لإضفاء نوع من الأساس العلمي البيولوجي على مقولات غرائزية تحاول أن تستعين بالأيديولوجيا والبيولوجيا لدعم طروحاتها التي تريد أن تقيمها على أسس علمية وفكرية مقبولة ومقنعة، لتنطلق من خلال تلك الأسس إلى فضاءات سياسية واقتصادية وقانونية وتشريعية وتربوية وفنية وإعلامية أوسع، تهدف إلى خلق رأي عام مؤيد وقاعدة شعبية مدجنة، تمكن تلك التيارات في مراحل لاحقة من قمع المعارضين، كما فعلت أيديولوجيات كثيرة عبر تاريخنا البشري .
وقبل أسابيع غاب لاعب نادي باريس سان جيرمان السنغالي إدريس غانا غاي عن مباراة لفريقه ارتدى فيها لاعبو الفريق قميصاً مرسوماً عليه علم المثليين، فشنت عليه وسائل إعلام ومؤسسات رياضية حملة إرهاب مرعبة، وأعلن النادي نيته التحقيق مع اللاعب، لشكوك في أن سبب غيابه عن المباراة يكمن في أنه ضد ارتداء قميص يحمل شعار المثليين .
وقبل ذلك شهدنا ممارسات تدعو للقلق من تحول أصحاب تلك الميول إلى «مقاتلين أيديولوجيين» لا يختلفون عن غيرهم من عناصر الحركات الأيديولوجية المختلفة، وما يجري اليوم يؤشر إلى طبيعة التحولات الجذرية التي تهدف تلك التوجهات إلى إحداثها في طبيعة المجتمع وبنية الأسرة، باعتبارها آخر القلاع «التقليدية» التي يمكن أن تعيق انتشار تلك الأيديولوجيا التي تتسع يوماً بعد يوم .