يجب ابتداءً الاعتراف أن عملية السلام في اليمن معقدة، فرؤية السلام لها وجوه متعددة، وأطروحات لا تتعلق فقط بطرفي الصراع، الشعب وحكومته، والحوثيين، بل تضاف رؤية المجتمع الدولي والأمم المتحدة للحل، والأطراف الثلاثة لها مقارباتها المختلفة لمسار السلام ومستقبله.
ولكي نصل إلى تقييم حقيقي لرؤية تلك الأطراف للسلام في اليمن، لا بد من تفكيك تلك الرؤى ووضعها تحت مجهر الحقائق ومسارات الأزمة، وما فرضته من تداعيات لحرب لم تبدأ بتدخل تحالف دعم الشرعية في السادس والعشرين من مارس 2015، بل بداياتها الحقيقية فيما أطلق عليه الحروب الستة في العام 2004، وكانت نتاجا لتراكمات سابقة عن ذلك، لتبلغ ذروتها بإسقاط العاصمة صنعاء العام 2014. في الجانب الحكومي – الشعبي تنطلق أساسيات السلام من إزالة أسباب الحرب، والتي تتمثل في الانقلاب على الدولة، في لحظة كان اليمنيون يرتبون مستقبلهم، بعد أزمة 2011 فذهب اليمنيون إلى التوافق على المبادرة الخليجية، والتي جنبت البلاد حربا أهلية، ظهرت بوادرها في انقسام الجيش، وتفجير مسجد دار الرئاسة، والاستقطاب الحاد السياسي والعسكري، وصولا إلى مؤتمر الحوار الوطني الذي استمر لتسعة أشهر، برعاية إقليمية وأممية.
وما نتج عنه من مخرجات أسست لإعداد دستور للبلاد، ثم الاستفتاء عليه، تليها انتخابات لا تستثني أحدا، وأوجدت معالجات للمشاكل المناطقية في حدها المعقول، وكان الحوثيون جزء من كل ذلك. المسار الأمثل في وجهة النظر الحكومية – الشعبية للسلام تبدأ من العودة إلى ما قبل الانقلاب، وذلك باستعادة مؤسسات الدولة، والتراجع عن الخطوات الأحادية، وإيجاد حل لاحتكار الدولة للسلاح، والعودة إلى مسار التوافق الذي ترسمه المبادرة الخليجية وتزمينها، وهي المبادرة التي أقرتها الأمم المتحدة، وأكدت عليها قرارتها ومنها القرار 2216 وما بعده. تلك الرؤية تشترط التراجع عما تم فرضه بالقوة، وعن التغييرات التي أحدثها الانقلاب في بنية الدولة ومؤسساتها، والتأسيس لعدالة انتقالية تجبر الضرر ولا تسمح بإفلات أي طرف من العقاب.
وهي قضايا من مسلمات السلام، وشرطا مستقبليا للاستقرار.
في المقابل: تنطلق رؤية الحوثيين للسلام، من منطلقات ترى فيها أنها قامت بثورة، سمحت لها بالاستيلاء على الحكم والسلاح، وان ما فرضته من واقع يجب البناء عليه، بما في ذلك رؤيتها لشكل الحكم القادم، المعتمد على تكريس زعيم الجماعة كمرشد وقائد للدولة، ولا تخفي تمسكها بالسلاح والمكتسبات التي حققتها به، وأنها من منطلق ادعاء المظلومية السابقة، لها الحق في استيعاب قياداتها وعائلاتها في تشكيلة الحكم القادم. جماعة الحوثي أظهرت في محادثات السلام، رفضا قاطعا للمرجعيات الثلاث، وترى أنها تضعها – إذا ما نفذت – في حجمها الطبيعي، وان أي عملية أساسها التعددية السياسية، والاختيار الديموقراطي الحر لن تكسبها شيئا أو سيكون تمثيلها متواضعا، ما لم تفرض تمثيلها باحتفاظها بالسلاح وان يشمل أي اتفاق تقاسمها في الحكم بما لا يقل عن الثلث، والذي تستطيع بموجبهما التحكم في الدولة. في المسار الأممي سيجد المراقب بكثير من الحيادية، أن الرغبات الدولية في تمكين الحوثي، واعتباره طرفا في أي عملية سياسية قادمة، هو الغالب على تحركاتها، ورغم التقارير الأممية المتتالية المحذرة من سلوك الحوثي – كجماعة راديكالية متطرفة – بما في ذلك توصيف مجلس الأمن في قراراته السابقة للجماعة كمتمردين، ومطالبتهم بالعودة الفورية عن انقلابهم، والتوصيف الأخير لمجلس الأمن للجماعة أنها جماعة إرهابية، إلا أن تلك الرؤية مازالت وظيفة المبعوثين الأمميين الدائمة. تلك الرغبات الأممية لا تستند إلى الواقع، بل أثرت عليها مسارات الأحداث، والتوظيف للجماعة في ملفات مهيمنة في المنطقة، والأهداف المعلنة للإدارة الأمريكية في الإضرار بدول المنطقة ومصالحها، واستخدام الحوثي – الذي صنف أمريكيا كجماعة إرهابية – كجزء في الملف النووي الإيراني، وتسويق الحرب على أنها حرب سعودية يمنية، في إغفال متعمد لحكومة شرعية يعترف بها العالم. تلك الرؤى المختلفة للسلام، تفرض قراءة منصفة للواقع اليمني، وإجابات نزيهة لأسئلة السلام الصعبة، واقترابا أكثر لسردية الصراع، ومن تلك الأسئلة: من بدأ الحرب وما هي منطلقاته وهل تغيرت أهدافه أم مازال يؤكد عليها على فرضها، بإصراره على اقتحام مأرب وحصار تعز ومهاجمة الضالع وغيرها، ما هو شكل الحكم الذي يريده الحوثيون؟ وما موقع زعيمهم في أي ترتيب سياسي قادم، وهل سيقبل اليمنيون بالنموذج الإيراني؟ هل يقدم الحوثي نفسه كحزب مدني يقبل أن يكون شريكا في عملية سياسية على مبدأ المساواة وحكم القانون؟ ماذا عن الفكر الإقصائي والعنصري لهذه الجماعة والذي تنفذه واقعا بسيطرة أسرها المحسوبة على ما يسمى تاريخيا بالهواشم؟ وهل ستتراجع عما أحدثته في المناهج الدراسية، والتشريع والقوانين؟ اليمنيون يؤكدون على رغبتهم في السلام وإيقاف نزيف الدم، وهم يقدمون كل التنازلات المؤلمة للذهاب إلى سلام عادل، ينهي الصراع ولا يوقف معركة فحسب، يؤسس لاستقرار لا تعود بعده حلقات العنف، ومن أهم شروطه في رأيهم، إزالة أسباب الصراع، لا أن يفرض عليهم حلا يقر المتمرد على تمرده وسلاحه، أو أن يتجاوز ذلك الحل الجرائم التي مارستها الجماعة. اليمنيون يأملون أن ينظر إخوانهم العرب أولا والعالم اجمع، إلى سرديتهم الواقعية للصراع، حيث تقف جماعة طائفية عنصرية في مواجهة شعب كامل بأحزابه وتشكيلاته وتكتلاته، استهدفت الجميع أحزابا وأفراداً ومناطق، وتعلن أن هدفها تشكيل ميليشيا جهادية لن تتوقف في حدود اليمن، وهو خطاب يكرسه اليوم زعيمها في ظل هدنة التزمت بها الحكومة.
كما أن الجماعة ترتبط بمشروع إيراني هدفه المنطقة برمتها، ثم إنها مارست ضدهم القتل والاختطاف والمجازر والقصف بالصواريخ وزراعة ملايين الألغام في منازلهم وطرقهم ومزارعهم، ولا تعتذر عن ذلك بل تؤصل له دينيا وطائفيا.
لم تتوقف جرائم الجماعة الحوثية عند سيطرتها على الدولة ومقدراتها، بل ذهبت إلى ممارسات خلقت وتخلق أحقاداً وكراهية مجتمعية ستؤثر في مستقبل اليمن وأبناءه، فجرت المساجد والمنازل، منعت الرواتب لأكثر من ست سنوات، مع جبايتها لكل إيرادات الدولة ومقدراتها، وفرضت على اليمنيين طقوسا واحتفالات ومعتقدات ضد قناعاتهم، حولت المدارس والمراكز إلى فقاسات للمحاربين المؤدلجين، أرغمت الناس على تسليم أطفالهم لمعسكرات التدريب مستغلة جوعهم وحاجتهم وجهلهم، وقطعت كل أبواب الكسب أمامهم إلا أن يكونوا جزءا من حربها وآلة قتالها.
إن هدف اليمنيين أن تعود دولتهم، وأن تتحقق في واقعهم وظيفة الدولة كضامن للجميع، دون عنصرية، أو استعلاء بسبب عرق، أو فكر، أو أفضلية، وعلى المجتمع الدولي أن يعترف بحقيقة وسردية الصراع في هذا البلد، والذي يدركونه جيدا، وأن التعامل مع جماعة تنطلق كل خطاباتها وممارساتها من رؤية بالغة التطرف، وفرضها على اليمنيين، لن يحقق السلام المنشود ولن يؤسس إلا لفوضى ستعم كامل المنطقة، وستصل إليهم عاجلا أو آجلا، فالتعامل مع الجماعة المتطرفة بعيدا عن الحسم مآلاته كارثية، وقضية خزان صافر دليل دامغ على ذلك.
وأخيرا: اليمنيون مع سلام عادل، ولن يكونوا إلا في مساره، لكنهم يؤكدون أنهم لم يبدأوا الحرب ولا من أشعلها، ومن غير المعقول فرض سلام يحقق لمن أشعل الحرب أهدافه منها، وأن يقبل اليمنيون بفكرهم وأفضليتهم المزعومة وسلاحهم المسروق، وهل يمكن أن نحقق لهم بالسلام ما لم يحققوه بعد بالقوة، والاهم هل القبول بشروط مغامر ومتمرد سيحقق السلام، أم سيفتح الطريق لكل متمرد ومغامر.