في 16 سبتمبر/أيلول الماضي توفيت الشابة الكردية مهسا أميني إثر اعتقالها في أحد مراكز «شرطة الأخلاق» الإيرانية، بسبب خصلات من شعرها ظهرت من تحت حجابها الذي «يخالف الحجاب الإلزامي» في إيران .
وفي 27 أكتوبر/تشرين الأول الماضي قتلت السيدة فرشته أحمدي من منطقة مهاباد الكردية برصاص قوات الأمن، حسب منظمة حقوق الإنسان الإيرانية، ونفى النظام مسؤوليته عن الجريمة .
أما الطفل نيما شفق فقد أنكر قائد شرطة أرومية حسن شيح نجاد مقتله على يد قوات النظام، وأرجع ذلك لـ«عضة كلب»، وهو سبب فيما يبدو يشبه ما ذكره النظام عن وفاة الشابة مهسا أميني بأنها كانت بـ«أزمة قلبية ».
وفي 27 أكتوبر استهدف هجوم إرهابي ضريحاً في مدينة شيراز اتهم فيه النظام « التكفيريين»، قبل أن يصدر بيان منسوب لتنظيم «الدولة» (داعش) يتبنى الهجوم. ورغم محاولات النظام توظيف ورقة «داعش» لقمع الاحتجاجات إلا أن المحتجين في شيراز خرجوا يرددون: «الحرس الثوري داعشي والباسيجي داعشي»، في إشارة إلى شكوك حركة الاحتجاج حول حقيقة الجهة التي تقف وراء الهجوم .
وفي 8 أكتوبر الماضي وصف الرئيس إبراهيم رئيسي المحتجين بـ«الذباب»، وهو وصف لا يختلف عن أوصاف أخرى لرؤساء وزعماء غيره صبت تصريحاتهم الزيت على نار الاحتجاجات في بلدانهم، وعلى الإثر خرج آلاف المحتجين يهتفون ضد رئيسي : « أنت ذباب الحشائش ».
والسبت الماضي هدد قائد الحرس الثوري بأن يوم السبت سيكون «آخر يوم للفوضى»، في تهديد واضح للمحتجين، وكان تصريحه كفيلاً بخروج الآلاف في مدن عدة، وعلى وجه الخصوص في الجامعات التي خرج طلابها يرددون: «لم نخرج ليوم واحد… موعدنا كل يوم ».
لا أحد بطبيعة الحال – وفي هذه المرحلة المبكرة من الاحتجاجات – يمكنه التنبؤ بمآلات الأوضاع في إيران، لكن الثابت أنه ومهما كانت المآلات فإن المحتجين قد سجلوا مجموعة من الأهداف في مرمى النظام، وفي مقدمتها أنهم هزوا سمعته أمنياً، وهي السمعة التي عاش عليها على مدى عقود من عمره، كما أن المحتجين كسروا حاجز الخوف، حيث رأينا الآلاف يخرجون كل يوم لمواجهة الرصاص الحي الذي أودى بحياة 287 بينهم 46 طفلاً حسب منظمات حقوقية إيرانية .
كما أن حركة الاحتجاج كشفت عن وعي الشارع بالدعايات السياسية والأيديولوجية للنظام، وكشفت كذلك عن كم هائل من السخرية تتعرض لها تلك الدعايات، بما يوحي بعدم انطلائها على المستويات الشعبية من الوعي، ناهيك من النخب الإيرانية في الداخل والخارج، بل إن المحتجين أصبحوا يرفعون شعارات النظام ضده، والشعار الشهير «الموت للديكتاتور» الذي وُظف ضد الشاه أصبح يردد كل يوم ضد المرشد الأعلى علي خامنئي، وهو ما يعني أن هالة القداسة التي حاول النظام إضفاءها على من يشغل منصب «المرشد الأعلى» تتلاشى، وما حرق صور خميني وخامنئي إلا دليل سقوط رمزية هاتين الشخصيتين، وسقوط الرمزية يأتي ضمن أكثر الأمور التي يخشاها النظام القائم على تقديس رموزه في نفوس الناس .
ومن المفارقات العجيبة ـ في هذا السياق ـ أن النظام الإيراني ركز خلال العقود الماضية في عقيدته العسكرية والأمنية والأيديولوجية على الخارج، محاولاً مد نفوذه الإقليمي، بأوهام امبراطورية تداعب أذهان الأنظمة الأيديولوجية بشكل مستمر، ومع ذلك، وفي خضم النجاحات الخارجية التي حققها هذا النظام فاجأه الداخل بالتمرد عليه أيديولوجياً وسياسياً وثقافياً، ذلك أن التركيز على الخارج جعل النظام يصاب بفقدان حاسته الداخلية التي لم تدرك أن الداخل يتغير بشكل أسرع مما تعتقد الأنظمة الأمنية .
والواقع أن التركيز على الخارج يعد محورياً في أيديولوجيا القيادة الإيرانية نظرياً وعملياً، وهذه الأهمية للخارج هي التي استدعت وجود نص دستوري يحتم «تصدير الثورة » إلى خارج إيران، وعلى المستوى العملي عمد النظام إلى الحرب على العراق خلال ثمانينيات القرن الماضي، ولما لم تنجح محاولاته في الحرب المباشرة أنشأ مليشياته، لإكمال أهدافه في التوسع الإقليمي .
ويأتي التركيز على الخارج لأسباب في مقدمتها الرغبة في الهيمنة المنطلقة من طموح إمبراطوري، والسبب الآخر أن النظام مهجوس بـ«نظرية المؤامرة» الخارجية، ولذلك يصرح مسؤولوه بشكل مستمر أن حربه في سوريا والعراق واليمن ولبنان هي من أجل ألا يضطر للحرب في شوارع طهران، لأن الخارج ـ في الأغلب - هو «الخارج العدو » ، في أيديولوجيا النظام الذي لم يتخذ الخارج عدواً إلا لأنه يعد نفسه «البديل العالمي» لهذا الخارج، وبالتالي فإن «العداوة والتوجس» يأتيان ضمن السمات الأبرز في رؤية وسلوك طهران إزاء هذا الخارج .
ومع تركيز النظام على ما يعتقده خطراً خارجياً أغفل مجموعة من الأخطار الداخلية التي تهدد وجوده، تلك الأخطار المتمثلة في نضوج حركة رفض شعبي لسياساته الداخلية والخارجية، مع تدهور الوضع المعيشي للناس في بلد يعيش أكثر من 60٪ من سكانه تحت خط الفقر، رغم أنه أحد أغنى بلدان العالم، ناهيك من تفشي الإدمان والإتجار بالمخدرات، وارتفاع معدلات هجرة الشباب، فضلاً عن قمع الحريات واستهداف المعارضين الذي ضاعف النقمة الداخلية، ضمن جملة من المخاطر التي تجعل جبهة الداخل أكثر الجبهات هشاشة في هذا السياق .
وعلى ذكر الخارج فإن ميليشيات النظام التي بناها لتطبيق نظرياته في الهيمنة الإقليمية، هذه الميليشيات ترقب بعين قلقة ما يجري داخل إيران، ويُعزى قلق تلك الأذرع العسكرية لعدة أسباب، في مقدمتها: الخشية من انقطاع الدعم الذي يأتي لتلك الأذرع، سعياً وراء أهداف محددة، والثاني، وهو سبب يكاد يكون أهم من السبب الأول، ويتمثل في خوف تلك الميليشيات التي أصبحت تتحكم بمقدرات دول، من أن تحفز احتجاجات الإيرانيين على احتجاجات مماثلة ضد سلطات الميليشيات القائمة على الأساليب القمعية ذاتها التي يقوم عليها النظام في طهران .
نقطة مهمة ينبغي الإشارة إليها هنا، وهي أن شعور النظام بـ«الأقلوية» ربما كان سبباً ـ ضمن أسباب أخرى ـ وراء سياسات كثيرة ينتهجها، للتغلب على هذا الشعور، ولعل بناء قوة عسكرية كبيرة مما يمكن اعتباره وسيلة من وسائل التغلب على الشعور المذكور، كما أن وقوعه بين رغبته المجنونة في التوسع الخارجي، وشعوره بأن هذا التوسع سيصطدم بعدة عوامل قومية ومذهبية وسياسية، أسهم في توجهه لبناء قوة عسكرية تكون لها اليد الطولى في المنطقة، لتنفيذ الشق الخارجي من استراتيجيته، ولابتزاز العالم بما يتواءم مع الطموحات التوسعية .
وبعبارة أخرى، فإن مشروع النظام وميليشياته لا يمكن أن يصل إلى السلطة عبر صناديق الاقتراع والاختيار الشعبي، لأسباب تمت الإشارة إليها، وهذا يفسر مركزية السلاح في استراتيجيته واستراتيجية ميليشياته من جهة، كما يفسر اللجوء المكثف للدعاية الدينية والأيديولوجية والسياسات الشعاراتية من جهة أخرى .
ومع كل تلك المعطيات، يمكن القول إن النظام نجح في الماضي إلى حد كبير في استعمال العباءة الإسلامية للتغطية على أعمال القتل والتخريب ونشر الفتن والحروب الطائفية وتفتيت المجتمعات العربية وغيرها من السياسات التي جعلته في مواجهة مع محيطه الإقليمي ومع المجتمع الدولي، غير أن مسار الأحداث بدأ يسحب تلك العباءة الدينية عن حقيقة سياسات النظام داخلياً وخارجياً، وهو الأمر الذي يعكسه شعار المحتجين الإيرانيين: «لا نريد الجمهورية الإسلامية»، وهو شعار لافت موجَّه ضد نظام «الولي الفقيه» أكثر مما هو موجه ضد الإسلام .