عندما يحل علينا ثلاثين نوفمبر, استعيد ذكريات الطفولة, والمعارك الفدائية ضد الاستعمار , والجنود الحمر ( التسمية التي كانت تطلقها الولدة رحمة الله عليها تحذرنا منهم) كانوا يضعون على قبعاتهم ريشة حمراء, أتى بهم المستعمر بعد أن اشتدت المقاومة الفدائية , والانتفاضات الشعبية والعمالية , خاصة بعد عملية قنبلة المطار التي نفذها المناضل العدني خليفة عبدالله خليفة , لتعطيل مشروع الجنوب العربي, واستهدفت راس السلطة البريطانية في عدن , العملية التي سرعت من خروج المستعمر .
ولا زلت أتذكر الاشتباكات المسلحة بين الفدائيين والإنجليز في المعلا عدن, كنا نسكن في مكان مرتفع يكشف لنا التراشق بالأسلحة , وكنا في عدن لا نعرف غير جبهة التحرير (FLOSY) ولا زالت هذه العبارة مدونة على بعض جدران المباني القديمة , لم نسمع بالقومية إلا بعد الاستقلال , خاصة نحن الأطفال .
كنا نعرف فقط أن هناك فدائيين يقاتلون المستعمر, وإذا أردنا أن نغيظ الجنود أثناء انتشارهم في الأحياء, نتجمع نحن الأطفال ونردد بصوت واحد (فلوسي), أو ناصر, ونهرب لنختبئ من بطش الجنود .
بعد أن رحل آخر جندي بريطاني, شهدنا للأسف قتال رفاق الكفاح المسلح, وسمعنا على عمليات تصفية لبعض الفدائيين, غاب الكثير من الحي , ورحل منهم من رحل , وقتل من قتل , وتركوا منازلهم وممتلكاتهم, وسرح الكثير من أعمالهم, وشهدت عدن هجرة غير طبيعية من الريف للمدينة, وبطريقة هستيرية تم اقتحام بعض المنازل, كل هذه الصور كانت تحدث في ظل احتفالات غامرة بخروج المستعمر , رفع علم الجبهة القومية (الذي هو علم الجمهورية اليمنية اليوم) التي انتصرت على جبهة التحرير وبقية الفصائل الشريكة في الكفاح المسلح , وأضيئت عدن بالقناديل , وانتشرت الشعارات وحولها الإضاءات الملونة , اكتست عدن حلة بهيجة من الفرحة بخروج المستعمر, وهناك في الطرف الآخر حزن عميق في صفوف جبهة التحرير ومناصريها, الذين رحلوا أفواجا نحو المناطق الشمالية , والقوارب البحرية هروبا من بطش الجبهة القومية , فقدنا الكثير من الجيران والأحباب والأهل , وحل محلهم آخرين من الريف .
صحيح، أن 30 نوفمبر عيد الجلاء, ولكنه يمثل للآخرين ذكرى أليمة , فالاحتفال به كان سيكون أجمل لو أن الجبهة القومية وامتدادها اليوم الحزب الاشتراكي اليمني, اعترفوا بتلك الجرائم, وقدموا الاعتذار, وتمت عدالة انتقالية , وتوقفت دائرة العنف والإقصاء والتصفيات, واقتتال الإخوة والرفاق, والحقيقة أن دائرة العنف استمرت, حتى يوم الوحدة اليمنية , التي كانت مخرجاً من دائرة العنف , وابتهج بها الجنوبين قبل الشماليين, وفشلت في ذلك, بسبب التوقيع عليها دون مصالحه حقيقية وتسامح, أو عدالة انتقالية , لتحقيق عدالة اجتماعية, فلم تكن الوحدة إلا امتداد لدائرة العنف نفسها , التي شملت الشمال والجنوب, وكانت كارثة حرب 94م , وما تلاها من حروب إلى اليوم والعقل اليمني في الجنوب والشمال لم يستوعب الدروس والعبر, ولا زال يراوح في دائرة العنف , ومن المفارقات أنه يحتفل بإنجازات فارغة من محتواها, لا ثورة حققت أهدافها, ولا استقلال تحقق .
مع الأسف أن تعود مشاريع ما قبل الثورة, عاد مشروع الجنوب العربي, الذي يردده الطائشون اليوم, وهو مشروع يعيد الروح السلطنات والمشيخات والإمارات التي كانت قائمة, وتم دمجها بالعنف الثوري للدولة الوليدة, وهي جمهورية اليمن الجنوبي , وتعود الإمامة في الشمال بقوة , ويتم تدمير فكرة الوحدة من عقول الشباب, وبالتالي يتم تقديم صورة رديئة لاستقلال مرتهن وتابع للخارج , لم نستطيع أن نحفظ إرث وتاريخ نضال أسلافنا, ولم نتمكن من حماية منجزاتهم التحررية , دمرناها وهي لا زالت وليدة , واستمرينا ندمر كل القيم والإنجازات والإرث النضالي , وارث عدن الثقافي والمدني والسياسي, لا نقابات محترمة, ولا مؤسسات وطنية, ولا قيم وأخلاقيات النضال الحقيقي, لا سيادة ولا إرادة, لا وحدة ولا ديمقراطية ولا جمهورية, ولا دولة, ولا مواطنة ولا حرية, وبالتالي لا استقلال , والله المستعان
*يمن مونيتور