رحل الدكتور عبدالعزيز المقالح 85 عاماً، تاركاً خلفه إرثاً ثقافياً وأدبياً ضخماً؛ عشرات الدواوين الشعرية، والكتب النقدية، ومئات المقالات، مع إجماع كامل على نزاهته الشخصية والفكرية معاً. تولى رئاسة جامعة صنعاء في مطلع الثمانينات عندما كان في الأربعين من عمره، وتولى رئاسة المركز اليمني للدراسات البحوث وهو في قمة نضجه الفكري والإبداعي، وقد بقي في الأخير حتى وفاته . من الكثير مما كتب حتى اليوم عن حياة الدكتور المقالح وأعماله لم يتعرض أحد ممن كتبوا لمرحلة من أهم مراحل حياته، وهي المرحلة التي امتدت من 1981- 2001، وهي فترة توليه رئاسة جامعة صنعاء، وهي المرحلة التي عرفه فيها الكثير سواء في الداخل أو الخارج. لقد كانت تلك المرحلة من أهم المراحل في تاريخ اليمن، وقد تميزت إلى حد ما بالاستقرار السياسي، مما ساهمت في خلق مرحلة من النضج الفكري والثقافي في الأوساط، أما على مستوى جامعة صنعاء، فقد حولها الدكتور عبدالعزيز المقالح -كما يقول الدكتور حاتم الصكر- إلى منارة تعليمية عربية سامقة، وبيت لكل الأكاديميين والعلماء العرب، حيث استقبلت عدد كبير من الأكاديميين والمبدعين الذين كانوا أعضاء في هيئة التدريس في كليات الجامعة المختلفة، وهي تلك الفترة التي كانت فيها اليمن آنذاك - شمال وجنوبه- تضج بالأفكار العربية، وبالحماس القومي، في الوقت الذي ظل الدكتور المقالح يكتب بقلمه المقالات الفكرية والأدبية التي ساهمت في صقل القُراء وبمختلف توجهاتهم الفكرية والثقافية والسياسية. أمسيات وأيام الدكتور المقالح توزعت بين لقاء بالأصدقاء وقراءة معمقة في المطبوعات والكتب الحديثة، وبين التدريس والتأليف والكتابة. عُرف عن الدكتور المقالح صداقته لعدد من مثقفي وأدباء اليمن، مثل عبدالله البردوني، سعيد الجناحي، عمر الجاوي، جار الله عمر، أحمد دماج... وغيرهم الكثير، كانت أمسياته وأحاديثه مثل كتاباته سهلة وممتعة في نفس الوقت، وكان دائم القول إن الكاتب الجيد هو قبل ذلك وبالأساس قارئ جيد. قيل إن الدكتور المقالح، اشتراكي، وقيل إنه ناصري لمواقفه الثابتة والشجاعة على المستوى الوطني والعربي، لكنه لم يكن هذا أو ذاك. بل كان وسطياً مستقلاً حتى وفاته. لقد وقف ضد بعض سياسات الأنظمة التي تعاقبت على اليمن شماله وجنوبه كما وقف ضد بعض سياسات الرئيس الأسبق صالح ، لذا تم تنحيته من رئاسة جامعة صنعاء. ومثل ذلك عندما كان لا يزال طالباً جامعياً في جامعة عين شمس، وهو يحمل اليمن في قلبه، حيث هدد بالاعتقال أكثر من مرة، وكان ذلك دليلا على صلابته وموقفه الوطني الثابت. هكذا عاش الدكتور المقالح ديمقراطيا محارباً للفساد، عاشقاً لحرية الرأي، وكان الشعر والكتابة بالنسبة له حرية تعبير قبل أي شيء آخر. ظل الدكتور المقالح طوال مشوار حياته مدافعاً عن واحدة من أهم القضايا العربية، وهي القضية الفلسطينية، والتي سخر قلمه للدفاع عنها، وكشف المظالم التي وقعت على أصحابها وربما كانت أكبر مآسيه السياسية هي هزيمة 1967 التي فاقت في التأثير فيه - على المستوى الشخصي - أي كارثة أخرى. كان واعيا إلى أن الصراع مع إسرائيل هو في الأساس صراع حضاري لا تنفع في خوضه الحناجر المتضخمة بالضجيج، إنما كانت هذه المواجهة تستدعي العقل والديمقراطية والحداثة، وكان يعلم أن ذلك لن يتأتى للعرب في يوم وليلة، ولن يخرجهم من هذا الصراع منتصرين إلا مكافحة النفس قبل الآخر، والنظر داخليا قبل النظر خارجيا، ومحاسبة الأنا قبل محاسبة الغير. تحت عنوان "5 حزيران وهزيمة الحلم العربي" كتب الدكتور المقالح: "ماذا يعني أن يبقى الشعب العربي كله أسير هزيمة الخامس من يونيو/حزيران 1967م، كل هذا الزمن الطويل؟ أربعون عاماً بالتمام والكمال وصور الهزيمة وما رافقها من انكسارات واتهامات، ومن قصائد شعرية نائحة، وأخرى ناقدة وشامتة، حاضرة وثابتة في الذاكرة العربية، وكأن الهزيمة حدثت منذ أسابيع فقط". ويرى المقالح أن الإجابة عن السؤال تستدعي إعادة النظر في الهدف الذي توخاه الأعداء، من وراء عدوانهم وهو باختصار شديد تحطيم أطروحات الوحدة العربية، وما انطوت عليه من طموح حضاري وإنساني، والحديث عن الأعداء بصيغة الجمع -كما يقول المقالح- "يأتي للتأكيد على أن العدو الصهيوني لم يكن في تلك الحرب سوى رأس حربة لا أكثر، لحرب قامت بها الولايات المتحدة وأغلبية الدول الغربية التي رأت في الوحدة العربية وفي التوجه العربي خطراً يهدد مصالحها الاستعمارية، وأنه كان السبب في تحرير الكثير من المستعمرات، في أماكن عديدة كان آخرها تحرير جنوب اليمن والخليج العربي." كان الدكتور المقالح يعرف، بل يحذق، فن كسب الأصدقاء، وكان يحذق أيضا فن الاحتفاظ بهم. كسب الأصدقاء دون خسارتهم فن إنساني عظيم لا يقدر عليه إلا قلة من الناس، فكل من عمل معه هو صديق، وكل من عرفه أحبه. رحمك الله أيها الاستثنائي في زماننا، وألهم محبيك الصبر والسلوان.. إنا لله وإنا إليه راجعون.
أمين الجرادي
في وداع د. عبدالعزيز المقالح 591