حتى هذه اللحظة، لا أقوى على الإلمام بنواصي القلم ولملمة حواشي الكلِم. فقد صدمني النبأ، بالرغم من معرفتي الأكيدة بتدهور صحته الجسدية على نحوٍ يومي فادح، منذ عدة شهور. وبالرغم من توقُّعي سماع هذا النبأ بين حينٍ وآخر، منذ فترة ليست بالقصيرة!
الاَّ أن وقع هذا النبأ الأليم على الأسماع والوجدان كان صادماً بحق. فهذا ما يحدث لأيّ امرئ تجاه كل عزيز. وهل من عزيز كعبدالعزيز!
...
هل أنهار بابك الثامن يا صنعاء؟
هل أسلمَ حارسك الأمين الروح؟
... وسلَّم عاشقك الأبدي الراية ؟
كتب عبدالعزيز المقالح قصيدته الأخيرة في كتاب صنعاء، وسِفْر الوطن، ودفتر الحياة.. وقرَّر أن يُغادر مقعده في المكان الذي لم يعد مناسباً لتواجده، وفي الزمان الذي لم يعد جديراً بوجوده.
هكذا، بعد رحلة طويلة مُضنية، حطَّ القلم على صدر الورقة، بعد أن خطَّ الكلمة الأخيرة على وجهها: وداعاً.
...
كان ظهره قد تقوَّس وانحنى، بعد أن ناءى بكلكلِ من أثقال ما عانى هو والبلاد..
كان ظهره ، فقط . أما قلبه فلا . وأما قلمه فلا. وأما ضميره الوطني والإنساني فلا، ولا الذاكرة.
هل كان ظهرك يا عزيز ، أم عضد الوطن هو الذي توجَّع وتهاوى وانكسر ؟
أم أنك قرّرت فجأة أن تُواري كل هذا الوجع الذي كان بحجم البلاد .. وأن تدفنه معك في رحم المدينة التي عشقت حدَّ التمزق والألم ؟
وها قد ضمَّك رحم صنعاء في رحلتك الأبدية إلى الأبدية . فأهنأ برحلتك الأخيرة مع المعشوقة التي لم تَرْقَ إليها معشوقة في فؤادك يوماً .
...
كنت مُتّقد الذهن والذاكرة حتى أيامك الأخيرة ، ومشتعل الروح والشعر ، وهانىء البال بسلامك الداخلي ..
وكنت تحتفي بأصحابك في دارك - بعد أن غبتَ عن مكتبك تحت وطأة التعب - وأنت بشوش المُحيَّا ، جذِلاً بهم .
وبرغم أن الأصحاب قد تناقص عديدهم ، وخَفَت نشيدهم ، الاَّ أنك لم تُدِر وجهك يوماً عن أحدٍ منهم في عاديّ يومهم أو عيدهم .
ألم تقُل لي يوماً :
" الأصدقاء
لم يعودوا مثلما كانوا
نجوماً تهتدي بها النجوم ،
والأعداء
لم يعد لديهم من فضائل الصبر
ولا أناقة اختيار الكلمات الجارحة " .
وقد كنت تراهم في دقيق البصر وعميق البصيرة :
" هذي الكتلة الكبرى من الزحام
لم يعودوا يُبصرون بعضهم
ولا طريقهم
لا خلفَ في قاموسهم
ولا أمام " .
...
رحمة الله تغشاك يا صديقي ورفيقي ومُعلّمي .. ورحمة الوطن .
بَيْدَ أنني أبكيك اليوم ، ليس للأمر الذي قضاه الله وقدَّره ، وهو أمر محتوم ..
إنما أبكيك لأنك رحلت في اللحظة الكريهة في حياتك وحياة صنعاء وحياة الوطن والناس الذين أحببت ..
اللحظة التي لم تكن قط جديرةً برحيلك ، الرحيل الذي كان ينبغي له أن يكون شبيهاً برحيل النوارس والمآذن والمرافئ والأشرعة .
هل كان الرحيل الخطأ في اللحظة الخطأ ؟
نعم ، كان كذلك تماماً .
فقد كان ينبغي لك أن ترحل - اذْ ترحل - في حالةٍ صنعائية مُوشَّاة بالابتهاج .. في سُمُوٍّ يمانيٍّ مُكتظ بالعنفوان .. في موجة فرح ، لا تكسرها صخرة ناتئة في شطّ البلاد ..
ولا يُصادرها قرصان أعور تمطَّى على صارية الفجيعة الغاشمة .
وداعاً ... يا سيّدي وحبيبي .
*موقع بلقيس