في أول يوم من العام الميلادي الجديد، لا يبدو أن اليمنيين كنظرائهم في بلدان الربيع العربي، أقرب إلى التفاؤل حيال هذا العام، ولا يتوقعون حدوث مفاجآت فارقة تنقل البلاد من حالة اللا حرب واللا سلم التي تكرست بعد أطول هدنة في تاريخ الحرب اليمنية، والتي استمرت ستة أشهر وانتهت في الثاني من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي.
سيعني هذا المقال بإيجاز لأبرز أحداث العام المنصرم، التي أنتجت خيبات ثقيلة، وتعرجات خطيرة في مسار الحرب وعملية السلام البطيئة أصلاً، وكرست سطوة المتحكمين الإقليميين وأنانيتهم المفرطة، وتحول معها من يسمي نفسه "تحالف دعم الشرعية" إلى مُغذي صراعات بامتياز، وحكمٍ غير نزيه بين أطراف تحارب وفق أجنداته وتهدم بنيان الدولة اليمنية وفقاً لأولوياته، كما سيعرج المقال إلى ما يمكن أن يعد به العام الجديد.
إن ما شهده العام المنصرم من أحداث وتحولات، لم يكن سوى محصلة تراكم للترتيبات والوقائع التي تفرَّدَ التحالف العربي في إنجازها وفرضها على اللاعبين المحليين، وعمقت المسار الكارثي، ومنحت الفرصة لقوى الأمر الواقع لتتوزع كما نرى اليوم، على الجغرافيا اليمنية، متسلحة بمشاريع وطموحات وأجندات؛ هي بمثابة حرب كاملة على اليمنيين ودولتهم وعلى إنجازاتهم التاريخية لتتحول لاحقاً إلى مكونات متنافرة في هرم السلطة المختطفة.
ومن الأمثلة على ذلك نقل السلطة إلى مجلس قيادة رئاسي، والذي جرت تغطيته بخدعة سياسية مكشوفة، مثلتها مشاورات الرياض المزعومة والتي عقدت تحت مظلة الأمانة العامة لمجلس التعاون الخليجي، مع تعمد واضح في ربطه بعملية تفاوضية مع الحوثيين تفضي إلى سلام لا يتحقق معه السلام.
لم يكن هذا التطور السياسي معبراً بدقة عن حاجة الشعب اليمني إلى إحداث هذا التغيير الجذري والكارثي في النخبة الحاكمة، إلى الحد الذي يسوّغ الإتيان بقيادات لا تتمتع بمشروعية وطنية، ولا تمتلك رصيد خبرة يمكن توظيفه في التعاطي مع تحديات المرحلة الراهنة والمستقبلية، والأخطر من ذلك أنها تهدد بإمكانياتها التسليحية وميليشياتها، مع وجود الدولة اليمنية نفسه.
لقد انهارت مشروعية مجلس القيادة الرئاسي، منذ اللحظة التي أضفى فيها المشروعية لاعتداء المليشيات على الجيش الوطني في محافظة شبوة في آب/ أغسطس 2022.
وفي لحظة تشظٍ أعقبت هذا الحدث، ها هو التحالف يترك هذا المجلس في منتصف الطريق، لذلك تضعضعت قدراته السياسية والتفاوضية، بالقدر نفسه الذي تضعضعت فيه قدراته العسكرية أمام التطور الذي هيمن على الربع الأخير من العام المنصرم، وتسبب الطيران الانتحاري إيران الصنع في تعطيل قطاع النفط كلية وحرمان السلطة الشرعية من موارد مالية مهمة.
وفي مقابل إصرار إماراتي على فرض المجلس الانتقالي ذي الأجندة الانفصالية؛ إرادته السياسية والعسكرية على كامل المحافظات الجنوبية، برزت ردة فعل رافضة لهذا التوجه، مدعومة من السعودية، وتحولت معها محافظة حضرموت الجنوبية الشرقية، الأكبر مساحة على مستوى البلاد والتي تتواجد فيها حقول نفطية مهمة، إلى ساحة تنافس بين السعودية والإمارات.
لقد توسل البلدان التحركات الجماهيرية التصعيدية ولكن السلمية أيضاً، وتمكن أنصار الرياض بالفعل من تعطيل مخطط طرد القوات الحكومية من المحافظة. ومع ذلك ما من شيء أخطر من المؤشرات التي أنتجها النزاع الناشئ في حضرموت، حيث يتكرس الانفصال أو التقسيم خياراً لا ثاني له، والخلاف إنما هو حول هل يأتي هذا التقسيم في صيغة فصل الجنوب عن الشمال أم فصل حضرموت عن الجميع.
وفي الجزء الشمالي من البلاد، واصلت السعودية في العام المنصرم سياستها المستندة إلى إرث عقود خمسة من الهيمنة على هذا الجزء من البلاد، والتي غلب خلالها حرص المملكة الناضح بالأنانية السياسية؛ على إفراغ البيئة السياسية من القوى والجماعات والأحزاب وحتى من اللاعبين المستقلين ذوي الأجندات الوطنية، واعتمدت عوضاً عن ذلك، على ولاءات أفقية لطالما أضعفت مركز السلطة في صنعاء، وبقي معها الرؤساء حتى عهد علي عبد الله صالح الطرف الأوسع نفوذاً بين الشخصيات والقيادات التي مارست بدورها نفوذا كبيراً، استناداً إلى الكم الوفير من المال السياسي الذي ضخته السعودية، ووظفته في بناء سلطة تابعة تقوم على قاعدة جهوية قبلية في العموم، تتسم بالميوعة المذهبية وإن طغى على حلفائها انتماؤهم المتوارث للبيئة الزيدية المهيمنة على الحكم خلال القرن العشرين.
وهي اليوم تريد استئناف ذات السياسة، لكنها مع وجود الحوثيين المرتبطين حركياً وعقائدياً وسياسياً بإيران، تعمل على إعادة إنتاج طبقة سياسية زيدية مستأنسة من المؤثرين في الطائفة، والذين تعتقد الرياض أن لديهم استعدادات، لتحييد النموذج الإيراني الذي طغى على المذهب، وإقصاء أبناء بدر الدين الحوثي وجماعتهم نهائياً، في وقت يبدو فيه جلياً أن الشخصيات التي تتعاطى معها الرياض تنشط منذ سنوات، ضمن الدائرة المقربة من زعيم جماعة الحوثي، وليس من المستبعد أنها تنهض بدور مزدوج قد يستفيد منه زعيم الجماعة ودائرته النافذة أكثر من الرياض.
وفي مسعى كهذا تجاهلت وتتجاهل الرياض حالة الرفض الشعبي الكبير في البيئة الزيدية، إن جاز التعبير، لمشروع الحوثي، وللحمولات السياسية البائسة للمذهب، التي تتناقض مع مفهوم المواطنة والكرامة والمساواة، وتآكل بسببها المذهب خلال العقود الستة الماضية بشكل كبير، وقل تأثيره في صياغة المواقف السياسية للناس.
لقد استمر موقف الرياض العدائي من حلفائها المرتبطين بمشروع الدولة اليمنية، من جيش وطني وأحزاب وشخصيات، وبقي هذا الموقف معبراً عن مصلحة مشتركة مع أبو ظبي حتى اليوم.
لذلك وفيما يتصل بالعام الجديد وامتداده الزمني، لا أعتقد أن هناك نهاية للسياسة العدائية التي تنهجها الرياض وأبو ظبي تجاه هذه القوى، إذ لا تزال هذه الفئات جميعها ومن ورائها الطيف الواسع من الشعب اليمني، أهدافاً مشروعة لمعركة بائسة وتتسلح بقدر كبير من الغدر وتُسخر لها كل الإمكانيات.
وبالمثل لا تعتبر الجهود الدولية والإقليمية التي تمثل العاصمة العمانية مسقط مرتكزها الأساس؛ المدخل المأمول لإنهاء الحرب في اليمن رغم حرص سلطنة عمان الواضح على تحقيق هذا الهدف.
ويقيني أن هذه الجهود على أهميتها ستبقى مساراً موازياً، وتأثيرها المحتمل سيبقى مرهوناً بحدوث تغير جوهري وإيجابي في مخطط إنهاء الأزمة الذي تحتفظ به الرياض، وتناور بسببه في بيئة محفوفة بالتغيرات، بما فيها تلك المرتبطة بالعلاقات المتوترة مع واشنطن، وفي وقت أبدت فيه أبو ظبي رغبتها في إعادة صياغة علاقاتها مع اليمن بعيداً عن التزاماتها في إطار التحالف، متكئة في ذلك على ميزان القوى المختل مع اليمن، والذي يميل لصالحها على أمل الاستمرار في لعب دور على الساحة اليمنية؛ يكرس نفوذها الإقليمي استناداً إلى الإمكانيات والأدوات التي تضع يدها عليها في الجغرافيا السياسية اليمنية.
*عربي 21