ما لم يكن متوقعاً أن يحدث ها نحن نراه بأم العين، فالصين دشنت دبلوماسية القوة الكبيرة الصاعدة بنجاح في الشرق الأوسط، مجال النفوذ الحيوي التقليدي الهام للولايات المتحدة الأمريكية، بعد تمكنها من جمع حليفيها النفطيين الرئيسيين في المنطقة: السعودية وإيران، في محادثات استمرت عدة أيام في العاصمة بكين وانتهت إلى التوقيع على إعلان لعودة العلاقات بينهما إثر انقطاع دام سبع سنوات.
فالصين اليوم، بإمكانها أن تتكئ على نفوذ مستقر نوعاً ما في المنطقة بعد عودة العلاقات السعودية الإيرانية، إذ أن القمة الصينية الخليجية التي احتضنتها الرياض في التاسع من شهر كانون الأول/ ديسمبر من العام الماضي، كان قد نتج عنها بيان أزعج إيران لأنه تحدث بوضوح عن أنشطتها المزعزعة للاستقرار في المنطقة، ومس بقوة اتفاقية الشراكة الاستراتيجية التي وقعتها بكين وطهران في السابع والعشرين من آذار/ مارس 2021 ولمدة 25 عاماً.
لا يجب أن نستغرب من أن ما حصدته الصين، كان بالفعل ثمرة للضغوط التي مارستها إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن على الرياض، منذ أن تسلم السلطة في البيت الأبيض أوائل 2021، على خلفية الحرب في اليمن، وعودة الانفتاح الأمريكي على إيران. فقد أوعزت واشنطن لحليفها العراق، الذي هو للمفارقة حديقة خلفية لإيران، رعاية محادثات سعودية إيرانية بدأت بمستويات أمنية منخفضة ثم تطورت إلى مستويات دبلوماسية كبيرة، ثم دخلت سلطنة عمان على خط رعاية هذه المحادثات، مما يعني أن التقارب السعودي الإيراني كان يلبي في جزء منه مطالب أمريكية بتطويع المملكة، خصوصاً أن هذه الضغوط تزامنت مع عودة النقاش حول الملف النووي الإيراني.
ومع ذلك أُخرج العراق من دائرة الربح الدبلوماسي وكأنه لم يصنع شيئاً، ولتتركز الأضواء على الصين، التي من المؤكد أنها ستبني على هذا الإنجاز دوراً دبلوماسياً سنلمس حضوره في الأحداث العالمية، في حين يبقى العراق هذا البلد العربي الكبير بين يدي حكام طائفيين، ارتهنوا ورهنوا بلدهم لإيران ومصالحها الاستراتيجية والأيديولوجية.
لم تكن السعودية وإيران على حافة الحرب فحسب، بل كانتا في حالة حرب حقيقية لكن بالوكالة في أكثر من ساحة عربية، وإحدى هذه الساحات كانت اليمن الجار اللصيق للمملكة العربية السعودية، بل إن شرق المملكة ومنشآتها النفطية تحولت إلى ساحة حرب مباشرة بين البلدين، إذ ثبت بالأدلة الأممية القطعية أن إيران دخلت فيها مباشرة عبر إرسال الصواريخ والطائرات المسيرة لاستهداف منشأتي بحيث وبقيق النفطيتين السعوديتين الكبيرتين في شرق البلاد، في الرابع عشر من أيلول/ سبتمبر 2019، وهو الهجوم الذي تسبب في تحييد خمسين في المائة تقريباً من قدرة المملكة على إنتاج النفط، وأعلن الحوثيون وقتها مسؤوليتهم عن هذا الهجوم.
والأمر لم يتوقف عند هذا الحد، فالصواريخ التي استهدفت عمق المملكة ومنشآتها النفطية في أكثر من موقع ومدينة رئيسية، مثل جدة والرياض، هي محصلة التحول في حرب الحوثيين بالوكالة، إذ كانوا قد هددوا بعد وصول ضابط الحرس الثوري الإيراني حسن إيرلو إلى صنعاء منتحلاً صفة سفير، بدخول سلاح الردع الاستراتيجي إلى ساحة المعركة، والذي لم يكن سوى الصواريخ البالستية والطيران المسير التي أوصلها الإيرانيون إلى صنعاء، رفقة الخبراء وضباط الحرس الثوري الإيراني وفيلق القدس التابع للحرس.
لقد استفادت إيران بشكل جيد من إبقاء حليفتها جماعة الحوثي خارج نطاق العقوبات الأممية، قبل أن يفرض مجلس الأمن حظراً على الجماعة دخل حيز التنفيذ في شباط/ فبراير 2022، مما يعني أن خليج عُمان وبحر العرب وخليج عدن والبحر الأحمر، وباستثناء بعض الاعتراضات المحدودة من قبل البحرية الغربية، بقيت طيلة سنوات الحرب الماضية خطاً مفتوحاً أمام السفن والقوارب الإيرانية، التي شكلت جسر إمداد بحري لصالح الحرب التي يخوضها الحوثيون ضد الشعب اليمني، إلى جانب مسارات برية وجوية أخرى.
ولم تكن ردة الفعل الإيرانية العنيفة التي ترتبت على إعدام رجل الدين الشيعي السعودي الموالي لإيران نمر النمر، في الثاني من كانون الثاني/ يناير 2016، وقام خلالها إيرانيون باقتحام السفارة السعودية في طهران وقنصليتها في مشهد وإحراقهما والعبث بمحتوياتهما، وقامت السعودية على إثرها بقطع العلاقات مع إيران، إلا تعبيراً عن غضب هذه الأخيرة من الحرب السعودية في اليمن.
ويعزى ذلك إلى أن إيران شعرت بفداحة فقدان دولة كبيرة ومؤثرة في جنوب شبه الجزيرة العربية هي اليمن، سبق للسعودية والإمارات أن وضعتاها في 21 أيلول/ سبتمبر 2014، بين يدي طهران بكل سخاء، في سياق ردة فعل عنيفة وطائشة ضد ربيع اليمن الذي كان بالفعل ربيعاً حقيقيا على المنطقة، بما يحمله من مبشرات على ولادة دولة مستقرة ومزدهرة وضامنة لأمن واستقرار وازدهار الجزيرة والخليج، ولم يكن مفاجئاً أن إجهاض ربيع اليمن قاد إلى تطورات سيئة باتت معها الدول المتدخلة عسكرياً في حرب اليمن مكشوفة استراتيجياً ومرتهنة لإرادة المجتمع الدولي.
لهذا لا أرى في عودة العلاقات السعودية الإيرانية تطوراً مهماً من الناحية الاستراتيجية، إذ لا يزال بوسع المرء أن يلحظ منحى تكتيكياً، وراء رغبة البلدين في الوصول إلى هذا المستوى من التفاهم، فجذور وجذوة الخلافات أكبر من قدرة الدبلوماسية والبراجماتية على إخمادها.
أقول ذلك لأن كلا من البلدين ذهب إلى بكين وخلفه سلسلة من الإخفاقات الداخلية والخارجية. فإيران تعيش عزلة دولية وحصار اقتصادي خانق، واضطرابات محلية تهدد نظام ولي الفقيه تهديداً وجودياً، في حين أنها تواجه تهديدات جدية بحرب أمريكية إسرائيلية وشيكة، في حين ذهبت السعودية إلى بكين وهي مثقلة بالعلاقات المعطوبة مع الولايات المتحدة، الحليف الاستراتيجي لما يناهز قرناً من الزمن، وتواجه خيار التنازلات المرة في حرب اليمن، بالإضافة إلى تبعات التنافر الناشئ مع شركاء إقليميين لطالما جمعتهم بالرياض تلك التحالفات الطارئة التي أنجبتها حقبة ترامب.
ولعله من المهم تتبع الأثر الذي ستحدثه عودة العلاقات السعودية الإيرانية على الحرب في اليمن، التي تمثل بعد ثماني سنوات، إحدى نقاط الضعف القوية في مواقف المملكة الإقليمية والدولية، فيما كان عليها أن تحول هذه الحرب إلى نقطة قوة إن أرادت.
ويمكن اختبار جدية إيران في بناء تفاهمات مستدامة مع الرياض، من خلال المساحة التي يمكن أن تتركها للسعودية في اليمن، ويقيني أن طهران ستعمل بكل السبل الممكنة لتمكين حلفائها الحوثيين، وإبقاء مشروعهم السياسي عصياً على الهضم من جانب السعودية.
وموقف إيران المتوقع هذا إما أن يدفع السعودية إلى تقديم تنازلات خطيرة، أو إعادة بناء اصطفاف يمني من الحلفاء لتقرير مصير الأزمة اليمنية عبر الحسم الذي لا تحتاج معه السعودية أكثر من النظر إلى الأمر على أنه مواجهة مشروعة بين الدولة اليمنية والمتمردين عليها، مع ضمان تمكين سلطتها الشرعية من الوصول إلى موارد القوة التي تمكنها من الانتصار الساحق على المتمردين في شمال البلاد وجنوبه.