القائد الذي يريد أن يحقق الاستقلال لشعبه، هل يمكن أن يتنازل عن منصب القيادة لقائد آخر يؤمن بالمشروع نفسه ويسعى للهدف ذاته؟
الجواب، بكل تأكيد: لا، لن يتنازل أي قائد عن منصبه لغيره، حتى ولو كان هذا "الغير" أكثر إيماناً بالقضية وأكثر حنكة في سبيل الوصول للأهداف.
وبما أن هذا القائد لن بتنازل فإن الهدف ليس الاستقلال، ولكن الكرسي والسلطة.
دعونا نفترض أن هذا القائد واتته الظروف ليحكم البلاد كلها وليس جزءاً منها، فهل سيكون لدينا أدنى شك في أن هذا القائد سيتحول إلى أكبر مؤيد للوحدة؟!
بالطبع، يتحول "الانفصالي" الذي يريد السلطة من خلال الانفصال إلى "وحدوي" إذا ضمنت له الوحدة سلطات أوسع.
ماذا يعني هذا؟
يعني ذلك أن القضية ليست قضية وحدة أو انفصال، ولكنها قضية سلطة وثروة.
فالقائد الذي يمكن أن يرفض الاستقلال إذا كان سيسلبه سلطته، والقائد الذي يقبل الوحدة إذا جلبت له سلطة أوسع، هذا القائد يتمحور حول عشقه للسلطة، لا إيمانه بالوحدة ولا بالاستقلال، وأيهما يمكن أن يجلب له السلطة سيسعى لتحقيقه، وأيهما سيفقده السلطة سيتخلى عنه ويحاربه.
أين الخلل؟
بما أن المسألة تكمن في الصراع على السلطة والثروة، فإننا يمكن أن نتخلص من كل مشاريع التقسيم الصغيرة إذا توصلنا إلى طريقة سلمية للوصول للسلطة وتقاسم الثروة على أسس ديمقراطية عادلة.
عندما يشعر جميع المواطنين بالعدل والمساواة، فإن مفردات الوحدة والانفصال، وشعارات "الوحدة أو الموت"، و"الانفصال أو الموت" جميعها ستختفي، لأن الهدف من كل تلك المفردات هو السعي لمشاريع استثمارية تغطيها المصطلحات البراقة.
من هنا رأينا الذين نددوا أمس بشعارات "الوحدة أو الموت"، يؤمنون اليوم بشعار "الاستقلال (الانفصال) أو الموت"، والذين قالوا أمس إن الوحدة فُرضت بالقوة هم اليوم يريدون فرض الانفصال بالقوة، والذين قالوا أمس بأن الوحدة كانت مشروعاً استثمارياً، يحولون اليوم الاستقلال (الانفصال) إلى مشروع استثماري بشع، وبالطريقة ذاتها.
كل هذه المشاريع الصغيرة - (الانفصال الطائفي) في شمال اليمن أو (الانفصال الشطري) في الجنوب - ما هي إلا انعكاس مباشر لانهيار الدولة وغياب المشروع الوطني اليمني الكبير الذي أصبح البعض بفعل الخوف أو الطمع أو "التكتيك" يتجنب الحديث عنه.
المشاريع الصغيرة تتقدم في بلداننا العربية، بسبب غياب المشروع العربي الكبير، وترك الساحة لتلك المشاريع يصيبها بالتضخم المؤذي لأصحابها قبل غيرهم، ذلك التضخم المرتبط بظروف خارجية، وللأهداف التي يريدها الخارج الأجنبي، لا الداخل الوطني، وبانقضاء الغرض من وراء هذا التضخم سيدرك أصحابه أن تضخيمهم كان لغرض في نفس يعقوب، ويومئذ يكون سقوط تلك المشاريع الصغيرة مدوياً بحجم خيبة الأمل الكبيرة فيها.