كم هائل من المطبوعات تحمل راية المثليين التي تحوي ألوان الطيف، الشعار ينتشر في كل مكان، وأكثر ما يتواجد فيه هذا الشعار متعلقات الأطفال والمراهقين الذين تستهدفهم «الأيديولوجيا المثلية» بشكل خاص في المدارس، في الوقت الذي تمنع الكثير من المؤسسات التربوية الحديث حول الدين للأطفال الصغار – مثلاً – بحجة أنهم ليسوا في سن تُمكِّنهم من الاختيار والتفكير، وبالتالي فإن تدريس الدين في سن مبكرة يعد بمثابة إجبار للطفل على تقبل دين والديه، وهذا لا يعطيه حرية الاختيار فيما بعد، حسب فلسفة تلك المؤسسات.
لكن هذا المنطق – بطبيعة الحال – لا ينطبق على تدريس «المثلية» التي طُبعت أعلامها على ملابس الأطفال المواليد، وذلك لكي تصبح مألوفة لهم منذ السنوات المبكرة التي يتلقون فيها إحالات مثلية في سن سمحت لهم بتلقيها، وإن منعت عنهم تلقي الفكرة الدينية، في تناقض يشير للقدرة على ممارسة الإقصاء والأحادية الأيديولوجية.
واليوم ترفرف راية المثلية في الفضاء الإلكتروني الواسع، تتمدد على مانشيتات الصحف، محلات الأقمشة وملابس الأطفال والمراهقين، بل وحتى الأطفال المواليد، وعلى لعب الصغار، وفي الأندية الرياضية والأماكن العامة والشوارع والمتنزهات والمركبات المختلفة، وتتزيا بالراية أعداد كبيرة من المؤسسات والشركات، وتتلون بها المباني والأبراج، وتوّج ذلك كله بخروج مهرجانات سنوية تجوب شوارع المدن الكبرى على جانبي الأطلسي تهتف للمثلية وترفع الرايات وتعطي زخماً كبيراً لتلك التوجهات التي تصبح مع الزمن «عقيدة دوغمائية» أطلقت على مهرجاناتها اسم «فخر» مع تحولها من مرحلة «الاستضعاف والمظلومية» والدعوة للتعددية إلى مرحلة «التنمر والقمع» والسعي المستمر لفرض توجهات أحادية بعينها.
وعندما نقول «القمع» فإن هذه التوجهات أصبحت اليوم تميل لفرض أيديولوجيا معينة على الآخرين، وتستغل إمكانات مالية وإعلامية وقضائية وسياسية وحقوقية واسعة لترهيب من يحاول أن يقدم وجهة نظر مخالفة، في أسلوب لا يختلف عن غيره من الأساليب القمعية التي تقول التوجهات المثلية اليوم إنها واجهتها في بداياتها الأولى.
في بدايات الحركات المثلية في المجتمعات الغربية كانت عبارة عن سلوكيات أفراد أو مجموعات صغيرة لا تمثل التوجه العام للمجتمعات، ولا تعبر عن أطر ثقافية أو توجهات أيديولوجية أو ميول سياسية معينة، وكانت تبحث عن إتاحة الفرصة لها لتعبر عن نفسها، بما يضمن عدم ملاحقة أفرادها أو تياراتها قضائياً أو التنمر ضدهم اجتماعياً، وكانت تتدثر بشعارات حقوقية حول الحريات والتعددية ورفض الشمولية والأحادية، وذلك للسماح لها بأن تكون مجرد صوت ضمن أصوات أو تيار ضمن تيارات، واتخذت شعاراً لها ألوان الطيف، في إشارة إلى رغبتها في أن يكون لها لون ضمن ألوان متعددة وصوت ضمن أصوات مختلفة، وليس أكثر.
ومع مرور الزمن غادرت المثلية مرحلة المطالبة فقط بـ«الحرية الجنسية» التي كانت تدعو إليها، في مراحل ظهورها العلني الأول، على اعتبار أن تلك الحرية تدخل ضمن الحريات الشخصية للإنسان المندرجة ضمن العنوان الأبرز في حقل الحقوق والحريات، انتقلت المثلية إلى مرحلة أخرى أكثر شراسة، وذلك بعد تحولها إلى ما يشبه الأيديولوجيا السياسية التي تحاول أن تفرض نفسها على المخالفين، بعد التحول من الشعار التعددي في ألوان الطيف الذي أرادت تلك الأيديولوجيا من خلاله التعبير عن مجرد الرغبة في أن تعيش ضمن عالم متعدد، قبل التحول الفاقع إلى المجال الأيديولوجي، معتمدة على ما تسميه البعد البيولوجي الحتمي الذي يقول دعاتها إنه لا يصح أن يُنظر إليه على أساس أنه مرض، بل على اعتبار أنه تكوين بيولوجي- جيني يولد مع الإنسان وليس في مقدوره التخلص منه.
ومع الزمن تطور الأمر إلى محاولة «عولمة المثلية» وفرضها على دول وشعوب مختلفة ثقافياً وحضارياً، وهو الأمر الذي يختلف عما كانت تلك المثلية تطرحه من دعوة لقبولها ضمن إطار التعددية، قبل أن تتحول فيما يبدو إلى أحادية تريد أن تعمم نموذجها على مختلف البلدان، مستغلة حركة العولمة والسوق المفتوحة التي سعت لتحويل الإنسان من جهة إلى سلعة في سوق، ومن جهة أخرى إلى رغبات جسدية تخضع للسوق وتتحكم بحركته، الأمر الذي يعلي من شأن التوجهات النفعية والذرائعية التي تسعى لإطلاق العنان لغرائز الإنسان المختلفة، ضمن فلسفة أعم ترى أن الإنسان ـ لا الإله ـ هو مركز الكون، أو أن الإنسان هو الإله الحقيقي، بفعل الترويج لحكايات «موت الإله» عند نيتشه و«موت المؤلف» عن البنيوية التي مهدت لما بعدها من فلسفات تدور حول نسف المعنى في اللغة والوجود بشكل عام، الأمر الذي نمَّ عن خواء روحي كبير، حاولت تلك التوجهات ملأه بإطلاق العنان للغرائز البيولوجية للإنسان، وفي مقدمتها الغريزة الجنسية في آخر تقليعاتها التي ترفعها اليوم الحركات المثلية المتعددة، حول العالم.
وعلى الرغم من محاولة المثلية البحث عن تبرير علمي لتوجهاتها فيما أطلق عليه «الحتمية البيولوجية» التي يقول بها كثير من الأتباع إلا أن هؤلاء الأتباع لا يعتمدون «الحتمية البيولوجية» عند الحديث عن الفروق البيولوجية الوظيفية بين الرجل والمرأة، حيث يصرون على إلغاء تلك الحتمية البيولوجية الواضحة، أثناء المطالبة بالمساواة بين الجنسين، وهذا يعكس ضرباً من التناقض الذي يعتمد إخضاع الحتمية البيولوجية للتوجه الأيديولوجي، وذلك باعتماد الانتقائية في التعامل مع القضايا الفكرية والفلسفية والأخلاقية المختلفة.
واليوم يحجم كثير من معارضي المثلية عن انتقادها بعد أن درَّعتْ نفسها بكم هائل من الدفاعات إعلامياً وقانونياً وسياسياً ومالياً، ضد مخالفيها.
إن هذا التحول من الدعوة للتعددية التي رافقت المثلية في بداياتها إلى ممارسة الأحادية اليوم ينبئ بتوجهات خطيرة لدى دعاة هذه التوجهات التي تسللت إلى مفاصل مهمة في النظم السياسية والإدارية للدول والمنظمات الدولية التي يبدو أنها نسيت أنها وجدت لخدمة الكل في إطار عالم متعدد، وليس تقديم مصالح الأقلية ومحاولة فرض أجندتها، تحت مسمى الدفاع عن حقوقها وحرياتها.
واليوم تسير تلك الاتجاهات بدعم قوي على كافة المستويات لتفرض أجندتها على المؤسسات التربوية والثقافية والأكاديمية في دول ومجتمعات مختلفة، وذلك تحت يافطات حقوقية فضفاضة، غير أنها تخفي وراءها أهدافاً لا علاقة لها بملف الحقوق والحريات، قدر ما لها من علاقة بأجندة سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية تسعى لفرض نموذج غربي لم تقبله بعد الأغلبية الشعبية في الدول الغربية، في وقت يراد له أن يعمم و«يعولم» لأهداف لم تعد خافية على أحد.
*القدس العربي