يوم الجمعة الماضي كان يوماً حزيناً بالنسبة لملايين اليمنيين في محافظة تعز، فقد اغتيل رئيس فريق برنامج الأغذية العالمي الأردني الجنسية، مؤيد حميدي، أمام أحد المطاعم في مدينة التربة المكتظة بالسكان والواقعة غرب المحافظة، برصاص مسلَّحّين اثنين كانا يستقلان دراجة نارية، في جريمة إرهابية تحمل الجينات نفسها التي ميّزت جرائم اغتيالات شهدتها العاصمة السياسية المؤقتة عدن طيلة السنوات الماضية.
ما حدث في مدينة التربة ليس عارضاً من عوارض الحرب والفوضى، بل جريمة سياسية إرهابية بامتياز، من نوع الجرائم التي تديرها أجهزة استخبارات خاصة تمارس عملها الاحترافي كقاتل مأجور عابر للحدود ومتصل وظيفياً بغرفة مركزية لإدارة الفوضى، حيث تمرست هذه الأجهزة على أعمال القتل في وضح النهار، وهي على يقين بقوة الغطاء الذي يوفر لها الحماية من الملاحقة أو العقاب.
كان حميدي -رحمه الله- وصبَّرَ أهله، لا شك، هدفاً مثالياً لمنظومة القتل الاستخبارية هذه، فالرجل مرتبطٌ ببرنامج يضطلع تقريباً بالجزء الأهم والأكثر حيوية من نشاط الأمم المتحدة في اليمن، وهو الإشراف على توزيع الحصص الغذائية على مئات آلاف العائلات الفقيرة والمعدمة التي تعيش تحت وطأت الحرب في محافظة تعز، مثلها مثل بقية الأسر اليمنية في المحافظات التي تعيش ذات الظروف، مع فارق أن تعز تحتضن الشريحة الأوسع من الفقراء، الذين كانوا يعيشون من كد عرقهم في أعمال توفرت في ظل السلام الهش الذي عاشته البلاد خلال العقود الماضية.
لا تزال تعز في نظر اللاعبين المحليين وكفلائهم الإقليميين جغرافيا قابلة للاستباحة والسيطرة، رغم كل النتائج التي أفرزها الصراع، ومنها أن تعز نجحت في إنتاج قوة ذاتية جيدة، استطاعت من خلالها أن تربك كل الحسابات وتُفشل كل الرهانات، وتلقن الحوثيين على سبيل المثال درساً مراً في الصمود، حيث فشلت آلتهم الحربية العائدة للدولة اليمنية في فرض النفوذ على محافظة تعز؛ كما كانوا يخططون وكان يخطط معهم شريكهم الرئيس في الانقلاب علي عبد الله صالح.
استطاعت تعز وبإمكانيات بسيطة أن تُبقي على المساحة الوحيدة الحرة في اليمن، والتي بوسع الناس أن يعبّروا على صعيدها عن إرادتهم كقوة مدنية فاعلة دون تحفظ، وبمواقف عصية على التوجيه والتوظيف، رغم المحاولات اليائسة حتى من أولئك الذين يمتلكون نفوذاً معتبراً في مدينة تعز، وأمكن بواسطة هذا المُعطي الحفاظ على القوة الجيوسياسية المؤثرة لمحافظة تعز، وتعطيل المحاولات اليائسة لتحييدها.
منذ وقت مبكر من زمن الحرب جرى زرع خلايا من بقايا الأجهزة الأمنية لنظام صالح في تعز، ومنها تشكلت نواة ما عرف فيما بعد بكتائب أبو العباس التي جلبت مقاتلين سلفيين من خارج المحافظة، وكان اللافت أن هذه الكتائب صُنفت سريعاً كمنظمة إرهابية، وهو أمر لا يمكن إلا أن يأتي نتيجة لتخادم استخباراتي من دول الإقليم، لأن غاية ما كان يتطلع إليه اللاعبون الإقليميون آنذاك من هذا التصنيف هو شيطنة تعز واستباحتها.
وسيتبين لاحقاً أن هذا التصنيف لم يؤثر وجودياً على قادة هذه الكتائب وأعضائها، فالجميع عاشوا بحرية كاملة، يتنقلون بين العواصم ويعيدون التموضع في مناطق نفوذ المليشيات التابعة للأجندات الإقليمية غرب المحافظة وفي عدن، ومتحررون من تبعات هذا التصنيف بشكل لا يصدق، حتى أن الإدارة الأمريكية لم تلحّ في تتبع أثر تصنيفها ذاك على تعز ولم تقتنع عملياً بأن تعز يمكن أن تصبح ساحة للنشاط الإرهابي، خصوصاً بعد أن نجح الجيش الوطني والمقاومة الشعبية في إنهاء وجود هذه الكتائب في مدينة تعز، لتُطوى هذه الورقة وتُحرق بشكل نهائي.
تضافرت جهود الانقلابيين والتشكيلات المسلحة المدعومة من الإقليم وإيران لاحقاً، من أجل إبقاء اليد على الزناد، في عملية قُصد منها تحويل تعز رغم أنف أبنائها ورغم مناخها الاجتماعي المسالم إلى ساحة للأنشطة الإرهابية، فجرى استهداف موظف الصليب الأحمر اللبناني الجنسية حنا لحود أثناء توجهه إلى تعز في 21 نيسان/ أبريل 2018.
وثمة هدف حيوي آخر وهو الحيلولة دون وجود نشاط أممي إغاثي وإنساني ولوجستي مثمر في محافظة تعز منفصل عن التحكم الذي تمارسه جماعة الحوثي في صنعاء، حيث تتواجد المكاتب الأممية، وبعيداً عن التشكيلات المسلحة في عدن، حيث فُرضت رقابة صارمة على كل ما يتعلق بالأنشطة الإنسانية والإغاثية في تعز، في سلوك لا يقل بشاعة عن الحصار الذي مارسه الحوثيون عبر المنافذ المؤدية إلى المحافظة.
هذه الجريمة لا يمكن أن تُقدِّمَ مناطقَ سيطرة جماعة الحوثي بديلاً مثالياً للنشاط اللوجستي للأمم المتحدة، فسلامة الموظفين الأمميين تحت سيطرة الجماعة، لا يمكن أن تغطي على أعمال التعذيب والقتل المستمرة والمروعة، ولا يمكن أن تغطي على عمليات غسل أدمغة الطفولة والتحريض الطائفي، والإرهاب الاقتصادي الذي تمارسه الجماعة ضد اليمنيين الواقعين تحت سيطرتها.
تتعالى الأصوات اليوم حول الدور المفترض لقيادات الدولة التي تقع على هرم السلطة الشرعية (رئاسة مجلس القيادة، رئاسة البرلمان، رئاسة الوزراء) والمنتمية إلى محافظة تعز، إذ تُكرس عمليات الاغتيالات في تعز فشل هذه القيادات التي كان عليها أن تعتني أولاً بمحافظتها كما ذهب بعض النشطاء، في تسطيح مخل وقراءة فاسدة للمشهد، إذ يفترض هؤلاء أن السلطة استحقاقٌ مناطقي ابتداءً.
إن كل قراءة كهذه وما عبرت عنه الحملات الممنهجة التي صاحبت عمليات الاغتيال، هو تعطيل القوة السيادية للقيادات التي تنتمي إلى محافظة تعز وتفادي تأثيرها على مشاريع هذه الجماعات المسلحة، أيضاً إظهار أن هذه المحافظة لا تستحق أن تبقى خارج نفوذ الجماعات المسلحة والمقاولين المحليين لحساب الأجندات الإقليمية.
إن أهم ما يجب أن تركز عليه الأجهزة الأمنية في تعز وقد حددت هوية القتلة؛ أن تحرص على ملاحقتهم أينما كانوا، وأن تفضح الملاذات الآمنة التي لجأوا إليها، وأن تكون شجاعة بما يكفي لفضح أي متورط بغض النظر عن مكانته أو حتى دوره في محافظة تعز. هذا مهم للغاية للحصول على اليقين الكامل بشأن من يعبث ويتربص بمحافظة تعز، ويريد إبقاء اليمن ساحة للفوضى.
*عربي 21