الجماعات الغارقة في الجريمة العامة، تُحاول التطهُّر من رذائلها، عن طريق التدخل في أخلاق المجتمع الخاصة. ولأن وجود هذا النوع البدائي من الجماعات يكون في المجتمعات المحافظة؛ لهذا فأقصر نهر يحاولون التطهُّر فيه هو ما يتعلق بمجرى النساء وتحديد طرائقهن في السير والحياة وكافة النشاطات العامة والخاصة".
عشرات الوقائع مارستها السلطة الحوثية ضدّ النساء، منذ بداية سيطرتها على السلطة في الـ21 من سبتمبر 2014.
نشرت السلالة الحاكمة في صنعاء تعاليمها الأخلاقية. الأخلاقية...؟ لا؛ بل للدقة تعاليمها اللا أخلاقية. إذ لا يمكن الحديث عن أي أخلاق دونما شرط الحرية أولًا. كل من هو متهم بممارسة أي نوع من الإكراه، عليه أن يخجل من الحديث عن الأخلاق، وفي مقدمتهم السلالة الحوثية.
لقد حاولت الجماعة الحوثية فرض تعاليمها الوقحة في كل مكان؛ في الأسواق والمكاتب الحكومية والمدارس الخاصة وصالات الأعراس ومحالّ الخياطة وأماكن الترفيه، بل ومراقبة النساء في الشوارع، للدّرجة التي يُمكنك أن تتعرّض فيها للتوقيف وأنت تتناول طعام الغداء مع واحدة من قريباتك أو حتى تمشي في الشارع ذاهبا كضيف لمنزل أحد أصدقائك. فإذا بمسلّح حوثي أو ناشر فضيلة تابع للسلالة يوقفك ليتأكد من هوية المرأة التي برفقتك.
وها هم أخيرا يذهبون نحو الفضاء الأهم لاكتساب مبادئ الحرية. نحو الجامعة، ويقررون الفصل التام بين الجنسين في جامعة صنعاء، بعد أن مارسوا سلسلة من المضايقات ضدّ طلّاب وطالبات الجامعة منذ سنوات. أرادوا ترسيم تعاليمهم بشكل نهائي، كي يحققوا نصرا جذريا وللأبد، كما يتوهمون.
هوس الحوثي بمضايقة النساء في عوالمهن الخاصة، أو فرض قيود على تحركاتهن العامة، سلوك يرقى لدرجة مرضية، أو ما يُدعى "كراهية النساء"، نحن أمام سلطة ليست مستبدّة فحسب؛ بل ويعاني رموزها من اختلال نفسي جماعي. أؤمن كثيرا أن المسافة الفاصلة بين الحوثي والعصر الجاهلي ليست سوى خطوة واحدة؛ كي يتجرأ ويدفن البنات وهنّ أحياء.
لربما أنه محتار، ولولا حيرته من انخفاض أعداد الأمهات مستقبلًا، لتمادى في منع قدومهن للوجود منذ البداية. فهو يأمل منهن أن يُنجبن له أطفالا؛ كي يُحارب بهم مستقبلًا. وهذا ليس فانتازيا بعيدة، بل حقيقة مترسخة في لاوعي الجماعة الحربي، وفكرة متناغمة مع رؤيته لدور النساء. آلات محجوبة للإنجاب، ويمنع أن يراهن أحد. فلو لم يكن الحوثي بحاجة لأجيال متتالية من المقاتلين، لربما دفعته رغبته بالتطهر المجرم، لإحياء عادات الجاهلية، ونفي النساء كليّا من الوجود وليس مجرد تعريضهم الدائم لمضايقات بلا نهاية.
لدى السلالة الحوثية انقلاب مخيف في وعيها بالأخلاق، لدرجة اعتبار كل ما هو جريمة أمرا أخلاقيا، وكل ما هو أخلاقي شرّا ورذيلة في نظرها. حيث استباحة حريات الناس فعلًا تخدم الفضيلة، فيما حديث المرأة مع زميلها سلوكا شريرا، هل يوجد عقل مختل بهذا المستوى، في العصر الحديث..؟
في كل فلسفات الكون وأديانه وتشريعاته تُعَدّ قيمة الحرية المبدأ التأسيسي لكل أخلاق الوجود، لدرجة أن شركك بالله -وهو أشنع الجرائم بالمفهوم الديني- يُباح لك، ما دمت أشركت لكونك مجردا من الحرية. فيما الحوثي يُجرد الناس من حرياتهم، وتلك أكبر فاحشة وجودية، في الوقت الذي يزعم أن رذيلته تلك تهدف إلى حماية أخلاق الناس المستعبدين تحت سلطته.
لا يرغب الحوثي بتربية مجتمع فاضل؛ بل يسعى لتنشئة مجتمع من العبيد، يتوغل بحقارة في الحياة الخاصة للناس؛ كي ينتج مجتمعا مجردا من كل إحساس أصيل بالحرية، وهو أمر لا علاقة له بالفضيلة؛ لكن الغاية هي تعميق نفوذه؛ ليضمن إمساكه الشديد بمصير المجتمع المستلب، والمحكوم بالقوة.
الخلاصة:
يواصل الحوثي إعاقة النمو الطبيعي للمجتمع الواقع تحت سيطرته. الأمر يتعدى مصادرته للحريات العامة والخاصة، فالجريمة تصل إلى مستوى تدمير الطبائع البشرية السويّة، وتشويه العوالم الباطنية للأجيال. والنتيجة مجتمع يعاني من خراب كبير في تصوّره للحياة. وعاجز عن التناغم مع مستوى الوعي العام للبشر في باقي مناطق الكوكب. فلا يوجد مجتمع مجرد من الحرية وفي الوقت نفسه يتمتع بتكوين عقلي ونفسي سليم. ذلك أن فرض سلوكيات تقيّد الطباع الفطرية للناس يرتد لتخريب ضمائرهم العميقة. إنها قرارات بقدر حماقتها هي تشكِّل حالة من التحكم الجذري بالتصورات الأساسية للمجتمعات، لكأننا أمام رغبة قسرية في تعطيل أي نمو حر للمجتمعات، استهداف آخر ممكنات التطور الاجتماعي الخاص، فالأمر لم يعد تعطيلا للحياة السياسية العامة، وتدمير أي محاولة لتأسيس دولة، بل كبح أي نمو ذهني وروحي للبشر، احتلال كامل مساحة الحياة، بما في ذلك العوالم الداخلية للجنسين.
إنك حين تمنع طالبة في المدرسة أو الكلية من النقاش مع زميلها، فأنت تفرض عليها سلوكا يتناقض مع كل ما تراه صحيحا، يتناقض مع هدف التطوير العقلي للجنسين، وحاجتهم إلى النقاشات المشتركة، ويتناقض مع وعيهن الطبيعي بأخلاقيات التعامل، ويصل الأمر نحو تشكيك الأجيال بمدى استقامتهم المبدئية. ذلك أن الفصل التام للجنسين في كافة مناشط الحياة يورثهم إحساسا بعدم أهليتهم للحياة الفضلى، التعاملات النبيلة والمهذبة، وهو أمر بقدر ما يمثل جريمة عامة تُعطِّل مجرى الحياة، هو أيضا تهيئة لبئية مرضية، حيث الجهل يتضاعف، وتنتشر معه الانحرافات بمستوى أكبر لما تدّعيه السلطة المختلة. فأنت حين تعتقد أنك تحمي الفضائل بمصادرتك للحرية تذكر أن الحرية أم الفضيلة، عليك أن تحرس فضائل الناس، بمزيد من الحريات، فبدون الحرية تكون أنت أكبر ممارس للفاحشة، وأكثر من يتسبب بها.