عام 1530 ظهرت في البندقية أول نسخة مترجمة للقرآن الكريم إلى اللغة اللاتينية، علم بها البابا كليمنت السابع، فأصدر مرسوماً بإحراق هذه النسخة، وتجاوبت محاكم التفتيش الإسبانية التي حرقت أرقاماً مهولة من الكتب العربية الإسلامية بعد سقوط الأندلس، وأصدرت فتاوى متعددة بتحريم أي ترجمة لاتينية للقرآن الكريم، كما كان الحظر مصير نسخة قرآنية أخرى ترجمت إلى اللاتينية في القرن الثاني عشر، لكنها لم تظهر إلى النور إلا مطبوعة عام 1541 في مدينة بال بسويسرا، وحال صدورها صادرت السلطات المحلية للمدينة جميع طبعاتها.
وإبان فترة الحروب الصليبية نُفذت عمليات منتظمة لحرق المصاحف والمساجد على يد الصليبيين في المدن العربية الإسلامية التي غزوها، كما ظلت الكنيسة الكاثوليكية الغربية تحرص على منع ترجمة أي نسخة من القرآن الكريم ونشرها باللغات الأوروبية، وعلى الرغم من معارضة مارتن لوثر زعيم حركة الإصلاح الديني البروتستانتي لهذه الأفعال، وتشجيعه على ترجمة القرآن إلى اللاتينية، على اعتبار أن القرآن يمجد السيد المسيح، إلا أن توجهات الحرق والحظر ظلت هي السائدة – بشكل عام – في أوروبا حتى نهاية القرن الثامن عشر.
أما في إسبانيا الوسيطة فقد حدثت أكبر مذبحة في حق الكتب، بأوامر من رجال دين وملوك كاثوليك أرادوا أن يمحو أي أثر للحضارة العربية الإسلامية في الأندلس، ففي عام 1517 وجه الكاردينال فرانشيسكو خيمينيت بجمع كل ما استطاعوا جمعه من الكتب العربية في مدينة غرناطة وضواحيها ومنها كثير من المصاحف والكتب التي جمعت في أكوام هائلة في أكبر ساحات المدينة، وتم حرقها جميعاً، عدا بعض الكتب في الطب وغيره من المجالات التي رأى هذا الكاردينال أنه يمكن الاستفادة منها.
وقد قدر المؤرخ الإسباني دي روبلس عدد الكتب التي تم حرقها بعد سقوط غرناطة بمليون وخمسمئة ألف كتاب في فنون المعارف والعلوم المختلفة، ورأى غيره أنه بالغ في تقدير العدد، وأن العدد الحقيقي هو ثمانون ألف كتاب، حسب المستشرق خوسيه كوندي، غير أن المستشرقة الألمانية زيغريد هونكه ذكرت في كتابها «شمس الله تشرق على الغرب» أن العدد الإجمالي للكتب العربية والمصاحف التي حرقها الإسبان بعد سقوط غرناطة يفوق المليون وخمسمئة ألف كتاب، الأمر الذي عبر عنه المؤرخ الأمريكي من أصل إسباني وليم بريسكوت بأسى بقوله: «إن هذا العمل المحزن لم يقم به همجي جاهل وإنما حَبْرٌ مثقف».
وقديماً قارن ابن حزم الظاهري بين ما فعلته السلطة السياسية آنذاك من إحراق لكتبه، وما فعله الكاثوليك في الأندلس من حرق للمصاحف والكتب الإسلامية في «الثغور» أو المدن التي دحروا عنها المسلمين، يقول ابن حزم:
فإن تَحْرِقوا القرطاسَ لا تحرقوا الذي
تضمّنه القرطاسُ، بل هو في صدري
كذاك النـــــصارى يَحْـرِقون إذا عَلَتْ
أكُفُّهم القــرآنَ في مُدُن الثَّـغْرِ
وإذا قفزنا بالزمن إلى التاريخ المعاصر، يمكن القول إن هجمات 11 أيلول/سبتمبر 2001 تسببت في انتشار مخيف لظاهرة «الإسلاموفوبيا» في الغرب بشكل عام، وكان من مظاهر انتشار هذه الظاهرة حرق المصاحف الذي عاد إلى الواجهة بطابع ديني-سياسي، مصحوباً بهجوم مسعور على الإسلام، ووصمه بصفات الإرهاب والعنف.
في العام 2010 أعلن قس أمريكي مغمور يدعى تيري جونز «اليوم العالمي لحرق القرآن» داعيًا إلى حرق نسخ من القرآن في ذكرى هجمات سبتمبر على نيويورك وواشنطن، بدعوى أن الكتاب المقدس للمسلمين يدعو إلى العنف والإرهاب والتطرف، قبل أن يتراجع هذا القس عما خطط له في ذلك العام، ليعود فيحرق المصحف في مناسبتين أخريين عامي 2011 و 2012، ويقوم جنود أمريكيون بإحراق نسخ من القرآن في قاعدة باغرام الأمريكية في أفغانستان في شباط/فبراير 2012، إضافة إلى ما ذكرته صحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية من أن محققين أمريكيين قاموا بتدنيس القرآن الكريم، في معتقل غوانتنامو سيئ الصيت.
وتكررت حوادث مماثلة بين عامي 2019 و 2022، إلى أن افتتح متطرف دنماركي العام 2023 بحرق نسخة من القرآن الكريم، حيث أقدم السياسي الدنماركي المتطرف راسموس بالودان على إحراق القرآن، أمام سفارة تركيا في العاصمة السويدية ستوكهولم، بعد أن كان قد قام مع عدد من أنصاره بحرق نسخ من القرآن في مناسبات مختلفة عام 2022، بين السويد والدنمارك مستغلاً جنسيته المزدوجة للقيام بأفعاله تلك في البلدين.
ويوم 28 حزيران/يونيو الماضي أقدم سلوان موميكا اللاجئ العراقي من أصول مسيحية على حرق نسخة من القرآن الكريم في العاصمة السويدية استوكهولم، يوم عيد الأضحى، مشعلاً موجة من الغضب في بلدان إسلامية مختلفة، وفي بلده الأصلي الذي قطع علاقاته الدبلوماسية مع السويد، على خلفية الحادثة.
ومما لا شك فيه أن هذه الأفعال ستستمر ما دام الخطاب اليميني يتقدم المشهد الأوروبي والغربي عموماً، وما دامت الأحزاب اليمينية المتطرفة تحصد نتائج طيبة في الانتخابات، على وقع خطابها المعادي للعرب والمسلمين والمهاجرين، بشكل عام، وما دامت هذه الأفعال تحظى بالحماية التي توفرها الأجهزة الأمنية، بذريعة «حرية التعبير» في هذا البازار الكبير الذي يتنافس فيه المتطرفون على تصدُّر المشهد الذي يرون أن تصدره يكون بإشعال المزيد من الحرائق، بما أن هذه الأفعال تجلب لهم اهتمام وسائل الإعلام، وتتحول إلى كاش سياسي في صندوق الانتخابات، مستغلين جمهوراً تجري عليه أكبر عمليات غسيل الأدمغة، يتم قولبته في قوالب جاهزة للاستعمال في أغراض شتى.
إن هذه الأفعال تشكل الشرر المتطاير الذي يمكن أن تقع واحدة منه على برميل من البارود، فتؤدي إلى اندلاع الحريق الكبير، الأمر الذي أشار إليه الشاعر والمفكر الألماني هاينرش هاينه بقوله» «إن المكان الذي تُحرق فيه الكتب سرعان ما يُحرق فيه البشر».
وهنا يتحتم الإشارة إلى أن حرق الكتب غير مقتصر على دين واحد، بل إن كتباً إسلامية كثيرة حرقها مسلمون مخالفون مذهبياً، أو متعصبون فقهياً، أو حاقدون يؤلبون السلطة، وتعد كتب ابن رشد أكبر شاهد على حرق مسلمين لكتب واحد من أبرز مفكري الحضارة الإسلامية والإنسانية بشكل عام، مثله مثل غاليليو الذي أحرق القساوسة المسيحيون كتبه لمجرد أنه قال إن الأرض تدور حول الشمس، وليس العكس، مخالفاً ما تراه الكنيسة التي حكمت عليه ـ مدى الحياة ـ بالسجن الذي مات فيه.
أخيراً، غضب المسلمين مبرر، إزاء حرق القرآن الكريم، لكن ردود الأفعال المتمثلة في حرق البعثات الدبلوماسية عمل لا يمكن أن يكون هو الرد المناسب، ولا يمكن أن يكون دفاعاً عن القرآن الذي لا يمكن أن تحترق كلماته الخالدة بنار الأحقاد المريضة والكراهية العمياء.
* القدس العربي