على مرِّ التاريخ، انتحر عديد من الأدباء والمفكرين والعلماء والفنانين وسواهم من المثقفين والمبدعين في شتى بلاد الشرق والغرب؛ احتجاجاً أو إحباطاً أو تعبيراً عن موقفٍ ما تجاه سوءات المجتمع أو سقطات الفكر أو أحقاد البشر، أو سواها من حالات شواذ الفكرة، أو شُذَّاذ الأفق.
ففي ربيع 1930، أطلق الشاعر الروسي الفذ فلاديمير ماياكوفيسكي رصاصة في قلبه - ولم يكن قد بلغ من العمر سوى 37 سنة - مقهوراً بالغ القهر من الدولة التي فسدت، ومن الحبيبة التي غدرت. وحين انتحر وجدوا جوار جثته رسالة خطَّها بيده، يطلب فيها عدم اتهام أحد بمصيره المأساوي، ويوصي رفاقه بأفراد أسرته خيراً. كما وجدوا مع الرسالة آخر مسوّدة قصيدة كتبها، ولم تكن قد اكتملت بعد، وكانت سطورها تنضح بالمرارة، وتكتظ بالآلام من مصائب الحياة، وويلات السلطة على السواء.
وفي ربيع 1941، نهش الاكتئاب روح الروائية الإنكليزية الرائعة فرجينيا وولف (59 سنة)، بعد أن تعاقب الموتى من أهلها وأصدقائها خلال زمن قصير، ثم دمَّرت القاذفات النازية منزلها الجميل في لندن، فألقت بنفسها في النهر بعد أن ارتدت معطفاً ملأته بالحجارة ليثقل فيسهل غرقها، إذْ لم تصعد من النهر إلاَّ جثة هامدة.
وفي صيف 1961، أطلق الكاتب العظيم ارنست هيمنجواي رصاصة على دماغه من فتحة فمه لينهي 62 عاماً من حياة حافلة بالمغامرات والملاحم في الحياة والأدب معاً. وكان هيمنجواي قد عانى من اضطرابات نفسية حادة بلغت حداً خطيراً من الاكتئاب يستعصي على العلاج.
وفي شتاء 1970، قرَّر الروائي والفنان الياباني العبقري يوكيو ميشيما - ذو الـ45 عاماً - إنهاء حياته على طريقة فرسان الساموراي المعروفة بالسيبوكو بأن غرز السيف في بطنه حتى لفظ آخر أنفاسه. وكان قبلها بأشهر قليلة قال، في حديث صحافي: "أشعر بإحباط شديد تجاه ما يحدث من حولي".
أما الشاعر العربي الكبير خليل حاوي (63 سنة) فقد فجَّر رأسه برصاصة في صيف 1981 على إثر الاجتياح الإسرائيلي لبيروت، إذْ لم يحتمل رؤية هذا المنظر وجهاً لوجه.
وغير هؤلاء وقبلهم وبعدهم انتحر مبدعون ومفكرون ومثقفون في بلاد مختلفة وأزمنة مختلفة، وتحت وطأة ظروف وأسباب مختلفة، غير أنها جميعها لم تكن تشذ عن دوائر الرفض أو الاحتجاج، ومربعات القهر والإحباط، بعد أن أصابهم الاكتئاب أو الانهيار في مقتل. ولا أظن هذه الظاهرة ستنتهي يوماً مادامت أسبابها مستمرة بل ومتكالبة في تنوعها وتشظّيها!
وفي هذة البلاد - منذ اندلاع هذة الحرب - انتحر كثيرون، بينهم مثقفون، ولكنهم قليلون.
فلماذا هم قليلون المثقفون والمبدعون الذين ينتحرون..؟
ولماذا هم كثيرون الذين يهاجرون؟
ولماذا..؟
* قناة بلقيس