الكرامة والقيمة الإنسانية هي أكثر ما تحتاج إليه الدّول، وهذه من الأمور التي يجب أن توفّرها الأمم المتحدة بحكم انتماء الدّول إلى عضويتها. ومن المؤسف القول إن الأمم المتحدة لم تعد تتمتع اليوم بإنجازات مثيرة للاهتمام، بقدر ما أصبحت غارقة في فشل وقصور لا مثيل لهما. فأشباح النافذين ستظلّ تطارد هذه المنظمة بصورة مُستمرّة، خصوصاً بعد أن كشفت الوقائع أنّ طريقة تعاملها مع الأمور في الفترات الأخيرة تكشف انعدام المساواة في التعاملات مع أعضائها، لا سيما بعد أن خضعت هذه المنظمة لتغييرات لم تعد تخدم الأغلبية بقدْر ما تضرّهم.
لقد عزّز اللاعبون الكبار رؤية أن الأمم المتحدة مشروع استثماري ناجح لهم، ولهذا لا يرون الأنظمة الشّرعية في الشّرق الأوسط، ومنها الشّرعية اليمنية بالعين المُجرّدة، في الوقت الذي صنعوا من أقزام المليشيات رموزاً بكلّ ما تحمل من فساد وإفساد ومذهبية مُدمّرة للمنطقة، وهم يعلمون أنها تعدّ امتداداً للمشروع الفارسي، الذي حولته الأمم المتحدة من حلم ومشروع إيراني إلى إقليمي، ثم إلى مشروع دولي هدّام يستهدف الجزيرة العربية والمنطقة أكثر من أية منطقة أخرى.
ولعلّ أكبر خطأ تقع فيه الأمم المتحدة يكمن في توفير غطاء سياسي لتلك المليشيات الانقلابية المسلحة، وهي تعرف أنها سبب دمار الشّعوب والثقافات، وأن شرعنتها يعدّ مشكلة كبرى تواجه جميع دول المنطقة بكيفية مباشرة أو غير مباشرة. ولكي تُعزّز مراكز القوى موقف المليشيات، قامت بمساعدة مجلس الأمن بإغراق المنطقة بمجموعة من المشاكل البينية لاستغلالها كأوراق تُعزّز مواقفها وموقف المليشيات أثناء عمليات التفاوض، وتلا ذلك تقسيم الأنظمة الشّرعية، ليكتمل المخطط الكارثي الرّامي إلى تقسيم دول المنطقة.
في السّابق كانت الذريعة هي البرنامج النووي في إيران، والذي كان يمثل أزمة "بلا جواز سفر" تتجاوز حدود دول المنطقة من دون إذن، حالها كحال تجارة المخدرات وقضايا الإرهاب، التي حاولت الأمم المتحدة إقناع دولنا بأنها غير قادرة على مواجهتها بكل ثرواتها وترساناتها العسكرية، علاوة على قيامها بـ"مَلْشنة" الجيوش، من قبيل "الحشد الشّعبي" في العراق ومَن يطلقون على أنفسهم "أنصار الله" في اليمن، في تكرار لتجربة "الحرس الثوري" الإيراني. والكارثيّ في الأمر أن الأمم المتحدة -بجلال قدرها- تُزكّي المليشيات وتروج أنها القادرة على محاربة الإرهاب ويتجاهلون جميعاً عمداً أنها الإرهابُ بعينه!
ولطالما خاتلت الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدّول بترديد الشّعارات التي تقول إنها لن تسمح للنزاعات بالاشتعال، لكنها كانت تتجاهل أن التغييرات التي تستحدثها، كدعم المليشيات، تعدّ السّبب الرّئيسي لإشعال النزاعات. فهل من المنطقي إدراج جماعات التخلف العنصرية ضمن مقومات بناء السّلام، كما تفعل الدّول الكبرى، واعتبارها ضامنة - ولو بجزء بسيط - لعملية التنمية أو تعزيز العمل السّياسي، الذي ترفضه المليشيات جملةً وتفصيلا.
لقد اقترفت الدّول الكبرى خطأ فادحاً تَمثّل في الفرق الذي يفصل بين الشّرق والغرب، من جهة، والفرق الآخر الذي تستحدثه داخل دول الشّرق الأوسط، عن طريق استثمار الورقة الطائفية، من جهة أخرى. فكل الدّمار الواقع هو نتيجة للفجوة التي تزداد اتساعاً، في الوقت الذي تقاوم الدّول المغلوبة على أمرها ما يطلق عليه أجندة الدّول الغنية، الطامحة و"الطامعة" في آن.
وبدل أن تحارب الأمم المتحدة ومجلس الأمن ذلك الخلل، نرى العكس، إذ تنشأ بعض التحالفات مع المليشيات، جميعها مبنية على تشابُك المصالح، وهذا يجرّها إلى التعامل مع البقية بعنجهية تعكس القصور الواضح. وهذا يتعارض مع أبجديات السّياسة الدّولية ويكشف أبعاد المناورات السّياسية الفاشلة، الذي تدفع ثمنه دول الشّرق الأوسط، التي يراد تمزيقها، وما يحدث في اليمن ليس إلا مثالا بسيطاً.. وفي حال نجحوا في تقسيم اليمن، فإنّ ذلك سيكون مدخلاً لمشروع الشّرق الأوسط، "الحلم الجديد/ القديم" الذي سيصبح تحقيقه مسألة وقت ليس إلا.
إن واجب الأمم المتحدة ينحصر في إحداث فروق في الميدان تخدم الشّعوب، لا في قاعات الاجتماعات، وتحقيق أهدافها قبل وعودها لتحسين حياة المليارات من البشر، ولكنها اعتادت مؤخراً أن تضلّ طريقها وتعجز عن تحقيق أغلب تلك الأهداف، فلا هي أحقّت الحق ولا هي حافظت على مصالح الشّعوب، وكل حديثها لا يتعدى حقوق الإنسان، التي لعبت بعض مراكز القوى دوراً كبيراً جداً في إهدارها، وقامت بالمتاجرة بقضايا الشّعوب وتسييس الخطاب السّياسي والإعلامي.. في ظلّ غياب المعايير الأخلاقية في جميع الميادين التي أثبتت فيها عدم جديتها في العمل من أجل إحداث الفرق، بعد أن ضربت الكوارث منطقة الشّرق الأوسط، في حين انشغل الكبار بتبادل التهاني في ما بينهم بإنجازات السّلام المُزيَّف والمصطنع.
فالمشكلة الحقيقية تكمن في تجاهل الأمم المتحدة عمداً لواجباتها، وانحرافها عن أداء مهامها الأصلية. فهي اليوم لا تقوم بمهمة "بناء البلدان"، بل تدميرها وتمزيق أنسجتها الاجتماعية، وما تصريحات مبعوثي الأمم المتحدة المتناقضة حول الأزمات التي تشهدها المنطقة، والتي تكشف الستار عن المؤامرات الدّنيئة التي تُطبخ على نار هادئة من أجل تمزيق اليمن واتخاذه مدخلاً لتمزيق المنطقة بأسرها إلا غيض من فيض ونذير شؤم..
كلنا لاحظنا كيف لعبت الأمم المتحدة دوراً تآمرياً ضدّ الشّرعية اليمنية، التي لم يترك لها المجال لفرض وجودها حتى في المناطق المحررة، في حين ضغطت من أجل أن تكون الكثافة السكّانية متمركزة في المناطق التي تهيمن عليها "جماعة أنصار الله"، في محاولة لإعادة التوزيع الدّيموغرافي للسكّان، وهذا الأمر عزّز موقف الجماعة أكثر أمام الأمم المتحدة، التي تتغنى بالملف الإنساني، بالرغم من علمها المسبق أن إجراءات سلطات صنعاء القمعية هي السّبب في تردّي الأوضاع الإنسانية، إلى درجة جعلت التفاؤل في تحسّنه محط سخرية الجميع. فاستقرار الوضع الأمني ليس إلا نتيجة للتسلط والأساليب البوليسية المُتّبَعة من قبَل سلطات صنعاء، التي عجزت عن ترميم الخراب الذي أحدثته، والتي من آخر تقليعاتها مطاردة المطالبين بالمرتّبات، التي تجني من الجبايات ما يكفي لدفعها أضعافاً مضاعفة.
كل ذلك بعد أن أدت تصرّفات الأمم المتحدة وتهاونها إلى انهيار البنية المجتمعية والنظام التربوي والزراعي والديني، وإلى انحطاط ثقافي وأخلاقي لم تشهد له اليمن والمنطقة مثيلاً منذ عقود، وأصبحت البلاد بمثابة "إقطاعيات" لأمراء حرب تقليديين، جميع السلطات تحت أيديهم ورهن تصرّفهم؛ بالتوازي مع عملية التدمير الممنهج التي شهدتها ولا تزال تشهدها البيئة السّياسية، ووأد أي حراك فكري أو أنشطة اقتصادية مُبشّرة بخير. وبدل تدخّل الأمم المتحدة لتقويم الاعوجاج القائم وفرض قراراتها، ها هي تضغط من أجل إقحام الشّرعية المطاردة في عملية سلام بشروط حوثية -إيرانية وضغط من اجل دفع مرتّبات المنقلبين عليها، في سيناريو سمج، والغاية تحقيقُ أهداف اللاعبين الكبار بعيدة المدى.
من الضّروري القيام بإجراءات مُضادّة وعاجلة لإيقاف ما يجري من تدمير للهوية اليمنية والعربية وضربها بالفارسية، في ظلّ تخاذل عربيّ وإقليمي ودولي. فالوقائع الحالية تُجبر الجميع على القيام بردّة فعل تحمي المنطقة ككل، بعيداً عن الأطروحات المثالية، كالتأقلم مع الظروف، والتآخي والوئام، لأنها كلها خارج قاموس الحقيقة وتندرج ضمن الخداع والتكالب السّياسي، الذي يهدف إلى تمرير المشاريع الدّولية التآمرية التي لا تستثني أحدا. وعملية الترويج لمسألة أن الحرب قد وضعت أوزارها ليست سوى نوع من أنواع الخداع، بما فيها الهدنات المتتابعة. وطالما أن هذا الأمر يتعلق بأمن المنطقة، فإنها هي الوحيدة التي تمتلك القرار لتحديد ذلك من عدمه، وليست إيران، الغارقة في مستنقع من الفوضى، والتي تحاول الأمم المتحدة انتشالها منه بإغراقنا فيه...
إن الأمم المتحدة تتجاهل أن الشّعب اليمني، الذي وعدت باستعادة شرعيته، في حاجة إلى مخطط سياسي واقتصادي متكامل وتنسيق وثيق مع الأطراف الخارجية من أجل تأمين الترابط بين نشاطات بناء الدّولة على الأرض، والقدرة على تقييم الأعمال المنجزة ومعرفة مدى التقدّم المُحدّد ومعرفة أماكن الخلل والزلل، والعمل على تلبية الحاجات السّياسية والاقتصادية الجوهرية اللازمة، والتي تحتاج إلى تنسيق قوي، واستخلاص الدروس من المعاناة التي يمر بها القائمون على الشأن العامّ بسبب التجاهل الدّولي لقرارات مجلس الأمن، التي خدمت سلطات صنعاء. فما خسرته الأمم المتحدة من مصداقية يُوسّع الفجوة بين دول العالم أكثر من ذي قبل.
كان بإمكان الأمم المتحدة أن تنجح لو أنها تحولت إلى أداة بيد الجميع، وليس أداة للقلة، وأن تكون يد الحقّ في الأرض، لا يد الشّيطان في الشّرق الأوسط.. وذلك لن يتحقق إلا عندما تنتصر لشرعية الأنظمة، التي بحّت أصوات شعوبها لفرط المطالبة بإنصاف من أي نوع كان، وعندما تكون الأمم المتحدة مظلة يستظلّ تحتها الجميع آمنين.. أمّا في حال لم تستطع أخذ البشرية إلى الجنة، فلا يجب أن تأخذهم إلى الجحيم، كما يحصل مع الشّرعية اليمنية، فبإمكانها أن نقوم بعمل أفضل، لا سيما في مثل هذا التوقيت المشحون والتحول اللاعقلاني في الصّراع برُمّته.
لقد غيّرت الحرب العالميّة الأولى، التي استمرّت قرابة خمس سنوات، أشياء كثيرة في العالم، فقد سقطت إمبراطوريات وأُوجدت أنظمة سياسية بحُلة مختلفة. وأُنتِج كمّ مهول من الإبداعات والابتكارات الإنسانيّة، التي غيّرت وجه الكرة الأرضية وتمّ بموجبها تطوير قوانين حقوق الإنسان. وأعقبتها الحرب العالمية الثانية، التي استمرّت ستة أعوام لتعزز ذلك. بما في ذلك بدء عمليات الأمم المتحدة "عصبة الأمم" في اكتوبر 1945م أي بعد حوالي عام من تأسيسها، وأشهر قلائل من انتهاء الحرب العالمية الثانية. أمّا الحرب اليمنية فقد استمرّت لفترة أطول من أية حرب خلال القرن العشرين، فلم تنتج سوى مليشيات متخلفة عاثت في اليمن وستعيث في الجزيرة العربية فساداً. وما زالت تلك المليشيات تحاول إثبات أنّ المسائل الأخلاقيّة تقع خارج العالم وأنه لا واجبات عليها تجاه من تُحكم حصارها عليهم. والأغرب اقتراحاتُ الأمم المتحدة ومجلس الأمن واللاعبين الكبار على الشّعب اليمني التغاضي عن المنطق السّوي والحق في الحُرّية والكرامة والتماشي مع الأخطاء التي تقترفها، بل وإجراء عمليات التجميل عليها، ومحاولات فلسفتها وترتيل تلك الفلسفة المغلوطة والماكرة على المنابر الإعلامية.. فلماذا يحصل كل ذلك في الشّرق، والشّرق الأوسط فقط؟!
* المصدر أونلاين