منذ يومين يتواجد في الرياض الوفد المفاوض لجماعة الحوثي برئاسة محمد عبد السلام فليتة، وهو الناطق باسم الجماعة أيضاً، وقد وصف مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان هذا الوفد بـ"الرفيع" في سياق ترحيبه وإشادته بهذه الزيارة، وليؤكد مدى اهتمام الإدارة الأمريكية في أعلى مستوياتها بهذه المحادثات، وهو أمر يدعو إلى الحذر الشديد بشأن مآلات الاستمرار في هذا الخط الثنائي عملياً والذي بات ينحصر في طرفين هما السعودية والحوثي؛ يتقاسمان هدفاً مشتركاً في تقويض بنية الدولة اليمنية والمس بهويتها الجمهورية الديمقراطية.
لم يعد الأمر يتعلق في تقديري بمسألة ترسيخ الهدنة، كأولوية أمريكية مبالغ فيها خصوصاً من جانب الرئيس جو بايدن، بل الأمر أصبح يجر اليمن إلى تسوية تنتزع من اليمنيين إرادتهم وتمس كرامتهم وتفسح المجال أمام الأطراف المستحدثة في خضم التحولات التي أنجزتها ثورة 11شباط/ فبراير 2011، من حوثيين وانفصاليين وغيرهم، لتنهض بالدور الحاسم في تقرير مستقبل اليمن المفتوح على احتمالات في غاية السوء؛ أدناها تحييد الشعب اليمني ودولته، وتعطيل قدرتهما الحصرية في تقرير مستقبل اليمن، وهو ما سيقود إلى أخطر هذه الاحتمالات وهو تفكيك الدولة.
تكمن أهمية زيارة وفد الحوثيين إلى الرياض في أنها تأتي بعد الزيارة الخاصة القصيرة واللافتة التي قام بها ولي العهد السعودي محمد بن سلمان إلى مسقط الإثنين الماضي، برفقة شقيقه الأمير خالد بن سلمان، وزير الدفاع الذي يشرف على ملف اليمن، وهي زيارة أتت في سياق إقليمي مشوش للغاية بعد الإعلان عن الخط الاقتصادي الذي يربط الهند بأوروبا مروراً بالشرق الأوسط، ويعطي الإمارات دوراً رائداً ومحفزاً للمشروع، ويجر السعودية إلى دائرة التطبيع مع الكيان الصهيوني؛ تماماً كما يريد رئيس الإمارات محمد بن زايد الحريص على أن يكون على رأس هذه القاطرة دون غيره، في حين يهمش هذا المشروع دولاً أساسية في مجلس التعاون الخليجي نفسه مثل سلطنة عمان وقطر والكويت، وخصوصاً سلطنة عمان التي تحتفظ بعلاقات تقليدية راسخة مع بلاد البهارات (الهند) منذ قرون.
ولن يكون بوسع السعودية أن تفرض طوقاً حديدياً على المحادثات وصعوباتها وأهدافها، لأن الحوثيين سيجدون ألف وسيلة ووسيلة لتسريب ما سيرون ضرورةً في تسريبه، لخلق مبرر للتملص من إملاءات محتملة. وهذا أصعب شيء يمكن أن تواجهه السعودية إذا ما كان هدفها في الأساس هو إعادة ترتيب مستوى تدخلها في اليمن بقبول جميع أطرافه، وهو ما قد يحد من طموحات جماعة الحوثي التي ذهب ممثلوها إلى الرياض، ليمارسوا علناً دور "المرتزق" الأحدث في مسار الهرولة نحو المملكة ولكن بحمولات ثقيلة ومطالب قد تستغرق المساحة الأكبر من زمن المحادثات.
ذهب وفد جماعة الحوثي محمولاً بآمال الحصول على فرصة الاستحواذ على الدولة ومقدراتها بموجب تنازلات يعتقد أن السعودية ستفرضها على الشرعية التي تهيمن عليها، لكن ذلك دونه تحديات كبيرة تأتي من إمكانية أن تتشظى الشرعية هذه المرة بين يدي قائدة التحالف وضداً لإرادتها، فتنتج مواقف لا تنسجم مع النمط الاستعلائي للرياض في إدارة الأزمة اليمنية، وهذا الأمر تجلّى في موقف مجلس النواب الذي أعلن رفضه صراحة لأي تسوية تتصادم مع مصالح الشعب اليمني، بالإضافة إلى المواقف التي بدأت تتسرب من مكونات محسوبة على الإمارات والتي تريد أن تضع هدف الانفصال في صلب المباحثات المتصلة بتقرير مصير الحرب والسلام.
يدرك الحوثيون أن ذهابهم إلى الرياض تأتي بعد تفاهمات غير قابلة للنقض، بين هرم السلطتين الحاكمتين في كل من السعودية وسلطنة عمان، البلدين اللذين يحتكرا، تقريباً، الملف اليمني على الرغم من استمرار الدور المثير للشفقة من جانب المبعوث الأممي إلى اليمن يوهانس غروندبيرغ، والمحاولات المستميتة من جانب سفراء الاتحاد الأوروبي لاستعادة الدور الذي كانوا يقومون به، وكان يكرس عبث الدبلوماسية الغربية وخياراتها وانحيازاتها المفضوحة لجماعة الحوثي.
تنعقد هذه المحادثات في ظل غياب كامل للشرعية مادياً ومعنوياً، وهذا التغييب لا يمكن أن تقلل من وطأته القاسية والمؤلمة التصريحات الرسمية الصادرة عن السعودية، والتي تؤكد أن المحادثات مع جماعة الحوثي بوساطة عمانية تمثل "استمراراً لجهود السعودية وسلطنة عمان، للتوصل لوقف إطلاق نار دائم وشامل في اليمن، وحل سياسي مستدام ومقبول من جميع الأطراف اليمنية".
وعلى الأرجح ستأتي نتائج محادثات الرياض الثلاثية متطابقة مع الأهداف الاستراتيجية لكل من السعودية وعمان، وسيحاول الحوثيون مدفوعين بدعم إيراني مراعاة هذه الأولويات، دون ضمانات أكيدة بشأن ذلك على كل حال.
لكن إن لم تلبِ نتائج محادثات الرياض الحد المطلوب والآمن من مصالح الشعب اليمني، فسيتحمل البلدان المسؤولية المباشرة عن الانسداد المحتمل للأفق أمام هذا الشعب وتدفعه إلى خيار المواجهة المفتوحة مع أعدائه، وحينها لن يكون هذا الشعب بحاجة إلى التعلق بتلابيب شرعية أسلمت قدره إلى أعدائه.
في تقديري قد لا تنتج هذه الجولة من المحادثات حلولاً فورية للحرب ومآسيها في اليمن، لكنها تقوّي وترسّخ المسار التفاوضي الثلاثي الراهن، الذي يضم طرفين إقليميين أحدهما (سلطنة عمان) وسيط شبه مهني، والآخر (السعودية) وسيط بنفوذ واسع وتأثير لا حدود له، وستمضي قُدماً في تعطيل قدرة الشعب اليمني على مواجهة ورفض النتائج السيئة المحتملة لهذه المحادثات، مما يفسح المجال لتسوية تقوم على مبدأ التنازلات السهلة والمكافآت السخيّة التي ستخصم حتماً من مكانة ورصيد ونفوذ الدولة اليمنية.
تحاول السعودية أن تنجز مهمتها في اليمن من خلال مقاربة تعيد من خلالها ترسيخ دورها كوسيط مهيمن ومتحكم بالدولة اليمنية المثخنة بالجراح، والأمر لا يستدعي منها أكثر من هذا التمرير الخطير للتنازلات التي بات من السهل عليها جداً فرضها على الطرف المُقصى والمنبوذ (الشرعية)، والتي بدورها تكرس نفوذ جماعة الحوثي المرفوض من الشعب اليمني، ضمن مساحة تتنازعها مشاريع انفصالية تابعة، تعمدت السعودية وبدور موازٍ من جانب الإمارات، أن تبقى بمستوى كافٍ من القدرة على استنزاف الدولة اليمنية والحيلولة دون استعادة عافيتها.
* عربي 21