ألف، ألفان، ثلاثة آلاف أو أكثر من الشهداء، وأكثر من اثني عشر ألف جريح ـ خلال أيام ـ في غزة التي تنتمي للمنطقة التي تعج بالكثير من «الإرهابيين والحيوانات البشرية» هذا في الواقع لا يهم كثيراً، بما أننا إزاء مجاميع من تلك «الحيوانات التي تمشي على قدمين» حسب التصور الإسرائيلي الذي عبر عنه يوآف غالانت وزير الدفاع الإسرائيلي الذي قال «نفرض حصارا كاملا على مدينة غزة، لا كهرباء ولا طعام ولا ماء ولا وقود، كل شيء مغلق، نحن نحارب حيوانات بشرية ونتصرف وفقا لذلك».
وإذا كان لا بد من «الاغتيال المعنوى» للشخصيات أو المجموعات البشرية أو الشعوب، من أجل المضي قدماً في عمليات الاغتيال المادي فإنه وفي الحالة الفلسطينية تحتاج إسرائيل إلى «حيونة» الإنسان الفلسطيني لكي تقدم مبرراً نفسياً، وهي تقدم على تصفيته، محو تاريخه، وحاضره، واجتثاث كل ما يثبت وجوده، تحتاج لتلك العملية النفسية التي تساعدها على اقتراف الجريمة باقتناع الذات وإقناع الآخر، لأنها حينها تتعامل مع «حيوانات بشرية» شريرة وغير أليفة، يجوز قتلها وفق كل المعايير الأخلاقية والقيم الروحية.
وهنا فإنه إذا كان من واجب الإنسان أن يتعاطى إنسانياً مع أخيه الإنسان، فإن تعاطيه مع الحيوانات الشريرة – تحديداً – ينبغي أن يكون مختلفاً، لأنها تستحق الموت، وهو الشعار الذي يردده المستوطنون أمام الفلسطينيين، سكان الأرض الذين يتلقون بشكل يومي سيلاً من الألفاظ والتصرفات والتهديدات بالقتل والطرد والمحو من الوجود.
وفي ظل وجود حكومة «دينية متطرفة» تتكئ على مرويات ثيولوجية وتاريخية وتصورات ذهنية وأدبيات متوارثة، وفي سياق زحف اليمين المتطرف على قطاعات واسعة من المجتمع الإسرائيلي – شعبياً ورسمياً – فإنه يمكن أن يقال إن تصريحات وزير الدفاع الإسرائيلي عن سكان قطاع غزة لا تخرج عن الصورة التقليدية للآخر العربي لدى المرويات اليهودية، وفي الأدبيات والخطاب الإعلامي والسياسي المعاصر في إسرائيل، حيث إن « العربي الجيد هو العربي الميت» حسب محتوى الخطاب التراثي والمعاصر الذي يغذي سياسات حكومة اليمين الإسرائيلي الحالية.
على المستوى الديني، فإن الثابت في الرواية الدينية اليهودية، وفقاً للعهد القديم وأدبيات التلمود أن النبي إبراهيم عليه السلام قام بنفي ابنه إسماعيل وأمه هاجر إلى الصحراء، لكثرة أذاهما له، وأن العرب على هذه الشاكلة، لأنهم من نسل هذا «الولد المتوحش» حسب التوصيف التوراتي.
جاء في سفر التكوين، الإصحاح 26 في وصف النبي إسماعيل «جد العرب» أنه «يكون إنساناً وحشياً يده على كل واحد، ويد كل واحد عليه» وهي صورة الشخص الذي يثير الصراعات والحروب، ويدخل في مواجهات مع الجميع، مما يضطر الجميع إلى الدخول في صراعات معه، وهي الصورة النمطية للعربي والفلسطيني في المخيال الإسرائيلي المعاصر.
وبما أن «جد العرب» نُفي إلى الصحراء، حسب الموروث الديني اليهودي، فإنه يكون متوحشاً يميل للبطش، على عكس أخيه إسحاق «جد اليهود» الذي يرد وصفه بأنه يعمر الأرض، ويستصلحها للزراعة، ويحفر الآبار، ويمشي بين الناس بالصلح والسلام، وهو ما يفسر الدعاية الإسرائيلية عن «إسرائيل دوحة السلام والديمقراطية والإنتاج» في الشرق الأوسط، كما يُسند التفسير الإسرائيلي لوجود دولتها على أرض فلسطين على اعتبار أنها «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض» جاء حسب وعد إلهي لتعميرها، تماماً كما كان جد هذا الشعب يعمل لتعمير الأرض من قبل، لتنطلق الرواية المعاصرة بالقول إنه بمقابل وجود الإسرائيليين «أصحاب الأرض» يوجد فلسطينيون مغتصبون لأرض إسرائيل، وإنهم حسب الحاخام شاس عوفاديا يوسف مجموعة من «لأفاعي السامة الذين يريدون قتل اليهود».
يمكن على أية حال القول إن الصورة النمطية للعرب إجمالاً لدى اليهود مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بمروياتهم الدينية التي لا تؤثر فقط على العامة، أو طلبة المدارس الدينية، ولكنها كذلك تطبع أنماط الحياة المختلفة في إسرائيل بطابع خاص، حيث ينظر للعربي من زاوية تلك المرويات الواردة في كتب التلمود والعهد القديم التي صورت أجداد العربي بصور شتى، وألصقت به تهم «السرقة والسلب والقتل، ناهيك عن كونه «ابن زنا» ميالاً للشذوذ والاغتصاب والوحشية، وعن كونه «شخصية انفعالية، بليدة العقل، لا يؤمن جانبها» حسب يهوشفاط هركابي مدير المخابرات الإسرائيلية الأسبق.
وقد ساعد على تشكيل التصور السلبي للمسلم أو العربي أو الفلسطيني لدى الرأي العام الإسرائيلي مجموعة من وسائل إعادة إنتاج الصورة، تأتي في مقدمتها بالطبع: الدعاية الدينية التي تمت الإشارة إليها، والتي تكرسها مناهج المدارس الدينية التي كان من مخرجاتها جيل متطرف من المستوطنين، يعيش فيما يشبه «الغيتو» الديني والتاريخي، ولا يريد الخروج منه إلا لكي يدمر المسجد الأقصى، ليبني «الهيكل الثالث» مكانه، وهذا ما يفسر السلوك العدواني للمستوطنين أثناء انتهاكاتهم المتكررة للمسجد الأقصى، ضد قدسية الحرم وأهالي البلدة القديمة.
وبالإضافة إلى الدعاية الدينية، فإن وسائل الإعلام ـ واليمينية منها على وجه الخصوص ـ تقوم بدور كبير في إعادة رسم صورة العربي في التصورات الشعبوية الإسرائيلية، حيث يشار للعربي في تلك الوسائل بأوصاف من مثل: إرهابي، متطرف، عنيف، ملثم، مخرب، همجي، بدوي، راعي إبل ومواشِ، وحارق مزروعات، وهي أوصاف ربطت وسائل الإعلام الإسرائيلية بينها وبين العربي بشكل آلي، حتى أنه عندما يرد خبر بأن إرهابياً أو مخرباً أو ملثماً – على سبيل المثال ـ قام بعمل ما، فإن الذهن ينصرف للعربي الفلسطيني، سواء كان داخل الخط الأخضر، أو في أراضي 1976.
ويشارك العرب في البلدان العربية الأخرى أشقاءهم الفلسطينيين في هذه الأوصاف التي يكرسها الخطاب الإعلامي الإسرائيلي الذي نادراً ما يتحدث عن حياة مدنية عربية، أو يأتي على أخبار في مجالات اقتصادية أو أكاديمية أو ثقافية، وكأن الحياة العربية، كما يريد أن يقدمها الإعلام الإسرائيلي لجمهوره، عبارة عن صحراء واسعة، لا ماء فيها ولا محصول، ولا علوم ولا ثقافة، ولا تنمية أو اقتصاد، لدرجة أن الدعاية الإسرائيلية عن «الأرض الخلاء التي عمرها اليهود» أصبحت بمثابة حقيقة لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، تضاف إلى «الحقائق التاريخية» عن «أرض الميعاد» و«الشعب المختار» وغيرها من السرديات التي تساعد وسائل الإعلام في نشرها وترديدها في صحف مثل معاريف ويدعوت أحرونوت، وحتى هآرتس ذات التوجه اليساري لا تخلو من كتابات تفوح منها رائحة العنصرية والتمييز ضد العرب.
أما الأدب العبري فإنه بدوره مصدر من مصادر الصورة السلبية للعربي في المخيال الإسرائيلي، وتشير كتابات عديدة إلى أن إنتاج الأدباء والكتاب الإسرائيليين المعاصرين يعد امتداداً للرواية الغربية الاستشراقية في تصوراتها للعربي، وأن هؤلاء الأدباء والكتاب – وعلى وجه الخصوص أولئك الذين قدموا أو قدم آباؤهم من أوروبا ـ لا يخرج تصورهم للعربي عن النظرة الاستشراقية الغربية التي تعيد تشكيل صورة العربي على هيئة حيوان هائج معبأ بغرائز الجنس والقتل، يعيش على السلب والنهب، وأن مشكلته في عقليته ومعتقداته الروحية التي تدفعه للثأر والانتقام وسرعة الانفعال، مع قدر كبير من البلادة الناتجة عن تقوقعه داخل بيئته الدينية والمكانية، وعدم تقبله للآخر، ورفضه لمعطيات الحياة العصرية الحديثة.
وإذا كانت صورة العربي الفلسطيني قد تشكلت في اللاوعي الجمعي الإسرائيلي عبر سلسلة من عمليات المنتجة لهذه الصورة، متأثرة بالمرويات الدينية والخطاب الإعلامي والسياسي والمنتج الأدبي والاستشراقي، فإن تلك الصورة تأثرت كذلك بالصراع العربي الإسرائيلي، والمعايشة اليومية داخل الأراضي المحتلة، وهي في مجملها صورة سلبية، أو لنقل إنها صورة حيوان على هيئة إنسان، حسب توصيف وزير الدفاع الإسرائيلي آنف الذكر، وهو التصريح الذي قالت عنه هيومن رايتس ووتش إنه «يحرض على ارتكاب جريمة حرب».