برز دُهاة كثيرون بين العرب، منذ ما قبل الإسلام، ليس في الجزيرة العربية وحدها، بل في شتّى البلاد. غير أن قليلين هم الذين خلَّدتهم كتب التاريخ كمثال أنموذجي على حدَّة الذكاء، أو شدَّة الدهاء، أو التفوق في سرعة البديهة، وصواب الأحكام.
وبرغم أن أغلب مؤرّخي العرب كادوا أن يتفقوا على أنّ أدهى دُهاة العرب هم ثلاثة؛ بحسب الترتيب أو بدونه: معاوية بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، والحجَّاج بن يوسف، وربما زاد عليهم بعض المؤرخين اثنين آخرين هما: المُغيرة بن شُعبة، وزياد بن أبيه.. إلاَّ أن كثيرين كانوا يبزُّون هؤلاء في مراتب الدّهاء ومناقب العبقرية، والتفوق في شتى العلوم والمعارف وصنوف الإبداع، ولكن العرب - ومؤرخيهم تحديداً - يُبرِزون دُهاة السياسة والسلطة والحرب والمكيدة على غيرهم!
ثم برز بعد الإسلام عباقرة ودُهاة في شتّى الدروب والفنون والمجالات، ولكن الغالبية العظمى منهم كانت ممن ينتمون إلى بلاد الإسلام البعيدة، أي أنهم كانوا من غير العرب. وكان فضل هؤلاء على الإسلام وعلومه ومعارفه، وحتى حروبه وغزواته، أكثر من فضل العرب أنفسهم.
وبرغم أن العقل العربي تفوَّق عبر التاريخ على عقول كثير من الشعوب كالفرنجة والإغريق، إلاَّ أن هذا العقل ظل يشهد تقهقراً مع مرور الزمان، فيما تتقدّم عليه عقول باقي الشعوب في إنتاجها المميّز في كل علم وفن وقول وعمل وإبداع، حتى صار العرب أثراً بعد عين في كل مضمار.
ولم يبقَ للعرب غير سيوفهم في غالب الأحوال. وحتى هذه راحوا يجيدون استخدامها في الاقتتال بينهم وبني جلدتهم، أما على أعدائهم الحقيقيين فقد غدت سيوفاً من خشب!
وتأسيساً على هكذا حال، ضعف عود العرب وتشتت شملهم، وبهتت جذوتهم، وانطفأت شعلتهم في كل مجال، حتى استقوت عليهم جميع الأمم في العلوم والفنون، مثلها في الغزوات والحروب، فإذا ببلاد العرب - جميعها تقريباً، وفي فترات متواترة - قد وقعت تحت نير الاحتلال الأجنبي القادم إليها من أطراف الشرق كالفرس، إلى أطراف الغرب كالروم، ومن أقاصي الجنوب كالزنج، إلى أقاصي الشمال كالفايكنج.
ومن سخريات القدر ومآسيه، في الوقت ذاته، أن البلد الوحيد الذي لا يزال حتى هذه اللحظة تحت وطأة الاحتلال الأجنبي ... عربي!، فيما تحرر كل شعب وقع يوماً تحت سنابك الغزاة، وجثم عليه المحتلون في كل فترات التاريخ، فيما لم يستطع العرب الاحتفاظ بأي بقعة أرض كانوا يقيمون عليها يوماً ما، بل راحت بلدانهم تتساقط كقطع الشطرنج أو الدومينو واحدةً بعد الأخرى في قبضات الشعوب التي كانت يوماً تخضع كلياً لسلطة العرب وحكمهم وشرعهم وناموسهم.
ونظرة فاحصة اليوم لأحوال العرب تفضح حقيقة واقعهم البائس، وتشير بوضوح إلى أنهم جنوا على أنفسهم بأيديهم، لا بلعنة من السماء ولا بهزَّة من الأرض، ولم تنفعهم ديانة ولا حضارة ولا ثقافة ولا ثروة ولا تاريخ ولا حتى جغرافيا، بعد أن سادت فيهم ضحالة منطقهم، وسوء تفكيرهم وتدبيرهم.
إن العرب هم الأُمة الوحيدة في هذا الكون الذين لازالوا يتفاخرون بما حققه أجداد أجداد أجدادهم، لا بما حققوه هم، أو حتى ما حققه آباؤهم. فإذا ما سألت عربياً: ما رصيده من منجزات العلم والتقنية والاختراع، أو حتى الأدب والفن والفلسفة، وسائر صنوف المعرفة؟ راح يستعرض لك - بحماقة مطلقة - اختراعات واكتشافات وإبداعات تحققت قبل مئات السنين، بل قبل ألف سنة.. أما رصيده في القرن الماضي - أو الذي قبله حتى - فالنتيجة: صفر كبير جداً، وعلى الشمال كمان!
لا أدري "متى يُعلنون وفاة العرب؟"، كما تساءل يوماً نزار قباني!
والحق، كل الحق، قد أُعلنت منذ زمن بعيد بعيد. وهذه الأيام أُعلنت من جديد!
* قناة بلقيس