«لابد أنكم سمعتموني أقول عدة مرات، إنه لو لم تكن إسرائيل موجودة، لكان علينا اختراع واحدة». ذلك هو ما صرح به الرئيس الأمريكي جو بايدن، في كلمة ألقاها بمناسبة لقائه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، في سبتمبر الماضي، على هامش اجتماعات الدورة 78 للجمعية العامة للأمم
المتحدة، وهو ما لا يمكن تجاهله أثناء النظر إلى الدعم الأمريكي المفتوح للكيان الإسرائيلي في حرب طوفان الأقصى.
لا يمكن توصيف الدعم الأمريكي للكيان الإسرائيلي إلا بأنه مشاركة عملية فعلية في الحرب على غزة، ففي غضون 72 ساعة تم إنشاء قطار جوي يحمل الأسلحة والعتاد الحربي، ونشرت أمريكا مجموعتين من حاملات الطائرات على متنهما 150 طائرة، بالإضافة إلى غواصة نووية، وسفن مسلحة بصواريخ جوالة واعتراض، ونحو ألفي مقاتل من المارينز، وأحد أبرز قيادييه وهو جيمس جيلين، صاحب التاريخ الأسود في الموصل بالعراق.
كما دعمت أمريكا جيش الاحتلال بطائرات قصف ثقيلة، تم الدفع بها إلى قاعدة الناتو في صقلية، ومنظومات صواريخ باتريوت وثاد، ومنظومات رادار ودفاع جوي، كما قدمت مساعدات للكيان تصل إلى 14.5 مليار دولار.
إضافة إلى ذلك، أعلن بايدن منذ البداية تأييده الكامل للكيان الإسرائيلي، وقام بزيارة إلى تل أبيب تعطي الضوء الأخضر في الاستمرار، وتبث رسالة للحكومة والجمهور الإسرائيلييْن بوقوف الولايات المتحدة خلف القيادة الإسرائيلية، واستخدمت أمريكا حق الفيتو في منع تمرير قرار بوقف إطلاق النار.
تخلت أمريكا عن وجهها الوقور وخطابها الدبلوماسي المتوازن، لتعلن تخندقها بشكل مفضوح مع الاحتلال، إذ تبنت الروايات الإسرائيلية بدءا بأكذوبة قطع المقاومة رؤوس الأطفال الإسرائيليين، وهو ما تبين للعالم كذبه، مرورا بتبني الرواية الإسرائيلية في اتهام المقاومة بضرب مستشفى المعمداني، وهو ما تبين زيفه أيضا، وانتهاء بمزاعم وجود قيادات حماس والأسرى الإسرائيليين في مستشفى الشفاء، فكان ذريعة للاقتحام الصهيوني للمستشفى، الذي لم يسفر عن اكتشاف أي أثر للأنفاق أو قيادات حماس، فعمد الاحتلال إلى وضع بعض الأسلحة الخفيفة وسترات الذخيرة في غرفة الأشعة، وهو ما ظهر كذبه كذلك.
هذا الانحياز الأمريكي المفضوح، ألحق خسائر فادحة بأمريكا وستظل الخسائر تلاحقها، فقد كشفت الحرب عن وجهها القبيح التي كانت تغطيه بقيم العدل والحرية والتسامح والسلام والتعايش الإنساني، وأبرزت كيف أن وجود تمثال الحرية على خليج نيويورك، ما هو إلا رمزية هشة، نكستها الحرب على غزة.
وفي عصر الثورة المعلوماتية وسهولة انتشار الأخبار والمقاطع المصورة، بعيدا عن سيطرة النخبة المتنفذة المسيطرة على تدفق المعلومات، ظهر للشعب الأمريكي وهم الديمقراطية التي تترنم بها الإدارة الأمريكية، وصار ما نسبته 68% من الشعب يؤيدون وقف إطلاق النار في غزة، وفقد بايدن كثيرا من شعبيته، بما يهدد فرصته في الانتخابات الرئاسية المقبلة.
كما استدعى الشعب الأمريكي رسالة أسامة بن لادن إلى الأمريكيين قبل عشرين عاما، التي ربط فيها بين عداء الأمة الإسلامية لأمريكا ودعم الأخيرة جرائم الاحتلال الصهيوني في القتل والتهجير والدمار في فلسطين.
والذين أخرجوا هذه الرسالة من بين ركام الماضي هم الأمريكيون أنفسهم، الذين أدركوا ما يمثل الدعم الأمريكي المفتوح للكيان الإسرائيلي، على أمن واستقرار وسلامة الشعب الأمريكي. انحياز أمريكا الواضح للكيان الإسرائيلي يضعف تحالفاتها في المنطقة العربية، وهو ما تترتب عليه آثار تضر بالجوانب السياسية والاقتصادية للولايات المتحدة، إذا ما ولت الدول العربية وجهها شطر الدب الروسي أو التنين الصيني، وهذا ما بدأت إرهاصاته بالفعل منذ سنوات، يُتوقع لها الاطراد بسبب العسف الأمريكي والموقف الرديء لواشنطن حيال الحرب على غزة.
أضف إلى ذلك، أن نزع الولايات المتحدة القناع والتصرف بهذا الشكل الفج حيال الحرب على غزة، ربما من المحتمل أن يجعل مصالحها في الشرق الأوسط محل استهداف، بعد أن تبين للأمة بما لا يدع مجالا للشك، أن أمريكا والاحتلال الإسرائيلي كيان واحد. لكن الولايات المتحدة تضرب بكل هذا عرض الحائط، من أجل تحقيق هدف واحد، وهو إنهاء القضية الفلسطينية بشكل كامل، عن طريق إزالة عقبة غزة التي تحتضن فصائل المقاومة، كما أن بايدن، كما أسلفنا، يضع وجوده على رأس الإدارة الأمريكية على المحك، فلماذا كل هذا الإصرار الأمريكي على دعم الاحتلال بهذا الشكل؟
الولايات المتحدة تسعى لتفتيت المنطقة من أجل الكيان الإسرائيلي، ويكفي أن الكونغرس تبنى وأدرج في السياسة الخارجية، مشروعا للمستشرق البريطاني الأمريكي برنارد لويس الذي يعرف بمهندس تقسيم الشرق الأوسط منذ أربعينيات القرن الماضي، لتفتيت العالم الإسلامي إلى كنتونات ودويلات عرقية ومذهبية وطائفية، والسبب الذي طرحه لويس
: «حتى يكون كل كيان من هذه الكيانات أضعف من إسرائيل، فتضمن تفوقها لنصف قرن على الأقل». هناك عدة أسباب مجتمعة تفسر هذا الاستبسال الأمريكي لدعم الاحتلال بما يحفه من مخاطر على المصالح الأمريكية، لا يمكن النظر إلى بعضها وتجاهل البعض الآخر. على رأس هذه الأسباب، قوة اللوبي اليهودي في أمريكا، وسواء ارتكزنا على نظرية البعض في أن ضغوط اللوبي ذات أهمية ثانوية تؤخر القرار أو تعدل من شكله، دون تحديد اتجاهه الأساسي، أو قلنا بما يقوله البعض الآخر من السيطرة الصهيونية على صناعة القرار الأمريكي وتحديد ملامح السياسات الخارجية، ففي الحالتين يتمتع اللوبي الصهيوني بثقل كبير ويسهم في تسيير الأمور داخل أمريكا، بما يمتلك من قوة اقتصادية وإعلامية ضخمة.
ومن أسباب هذا الدعم، رؤية الولايات المتحدة المبنية على وجود حليف استراتيجي قوي بين الدول العربية، يمنع التكتلات العربية، ويدخل الدول العربية تحت العباءة الأمريكية، بما لهذا الكيان من ثقل وتأثير في المنطقة، تقف وراءه الولايات المتحدة.
ثم يأتي العامل الاقتصادي ضمن أبرز هذه الأسباب، حيث ترتبط الولايات المتحدة بدولة الاحتلال بعلاقات اقتصادية قوية في التبادل التجاري والاستثمارات، إذ ترتكز العلاقات بينهما بهذا الصدد على تجارة ثنائية تصل إلى 50 مليار دولار، واتفاقيات تجعل أمريكا أكبر شريك تجاري لدولة الاحتلال. لكن ثمة بعد آخر يتردد الكثيرون في الحديث عنه، خوفا من الاتهام بالتطرف أو العنصرية أو معاداة السامية، أو في أقل الأحوال الاتهام بخضوعهم لنظرية المؤامرة، ألا وهو البعد الديني.
. لكن سنعتمد في تقرير هذا الرابط، على رؤية المفكر الأمريكي ناعوم تشومسكي، التي تقول إن الإنجيليين في أمريكا داعمون متحمسون للسياسات الإسرائيلية، وأصحاب مبادئ تدبيرية، أي تتعلق بالبعد الديني النبوءاتي، ويتطلعون إلى معركة هرمجدون، ويؤمنون بأن 160 ألف يهودي سوف يؤمنون بالمسيح، والبقية تلحقهم اللعنة الأبدية، ويرى تشومسكي أن سبب دعمهم لإسرائيل هو تفسيراتهم للكتاب المقدس، وأن هؤلاء الإنجيليين أو الأصوليين المسيحيين، يؤمنون بضرورة عودة اليهود إلى فلسطين. وأقول، توضيحا لكلام تشومسكي، إن الأصوليين أو الإنجيليين يؤمنون بحرْفية العهد القديم والجديد معا، ووفق اعتقادهم فإن قيام دولة إسرائيل تمهيد لعودة المسيح المُخلص، الذي يواجه أمة الشر وذلك خلال معركة كبرى تُسمى «هرمجدون» أي: سهل مجدون بفلسطين، وأن السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين تأخير لوعد الله. هؤلاء الإنجيليون أصحاب نفوذ اجتماعي وإعلامي وسياسي وذوو ثقل وتأثير بالغ في أمريكا، والعديد من الرؤساء وأعضاء الكونغرس والمتنفذين يتبعون هذه الطائفة، ولعل من نافلة القول أن نذكّر ها هنا، بالزيارة التي قامت بها بلينكن وزير الخارجية الأمريكية إلى تل أبيب، بعد بدء الحرب على غزة، وتأكيده على أنه يزور تل أبيب كيهودي. هذه الأسباب مجتمعة، تفسر هذا الدعم اللانهائي التي تقدمه الولايات المتحدة للكيان الإسرائيلي، رغم كل الخسائر التي يمكن أن تتعرض لها الإدارة الأمريكية، والله غالب على أمره لكن أكثر الناس لا يعلمون.
* كاتبة أردنية