في قضايا الكرامة والحرية والاستقلال، لا تقاس التضحيات بمعيار الربح والخسارة. قياس التكلفة يُحسب في المشاريع التجارية والعلاقات الاقتصادية، لا في قضايا الأوطان. في التجارة لا جدوى من مشروع تزيد تكلفته عن عائداته. في كفاح الأفراد والشعوب تحت راية الحرية والكرامة، والقضية عادلة، تهون التضحيات في سبيل الحق والعدالة.
كلما عظُمت التضحيات أزدادت عظمة القضية ومكانتها. ولا قضية في تاريخ العالم المعاصر بحجم القضية الفلسطينية في عدالتها، والتضحيات التي قُدِمت لأجلها. الشعب الفلسطيني يمتلك قضية عادلة ، ويتميز بقدرته على التضحية والصبر في سبيلها ، وقدرته على التحمل والصمود في مواجهة حروب شرسة توالت عليه على مدى خمسة وسبعين عاماً ، وتضمنت مجازر شهيرة ومشهودة أبرزها مجزرة دير ياسين عام 1948 ، مجزرتي كفر قاسم وخان بونس عام 1956 ، مجزرة صبرا وشاتيلا 1982، مذبحة الأقصى في أكتوبر 1990 ، مذبحة الحرم الإبراهيمي عام 1994 ، مجزرة جنين في أبريل عام 2002 ، وبين كل مجزرة وأخرى مجازر وحروب ، وصولاً إلى حرب الإبادة في غزة والتي مضى عليها شهر ونصف ولا زالت مستمرة ومفتوحة على مرأى ومسمع العالم الذي يتابعها مبثوثة على الشاشات الفضائية.
هذه القدرة على التضحية مكنت الشعب الفلسطيني من البقاء عصياً على المحو والتركيع رغم ما واجهه من تهجير وحروب سعت لاقتلاعه من أرضه.
هذه القدرة على الثبات والتضحية هي من أبقت القضية الفلسطينية حية وحاضرة في كل المراحل ، ومتجاوزة لكل المعطيات السيئة والمخططات المعادية لشعب ضرب مثلاً على صلابة الحق حين يغدو طبيعة ثانية في نفوس أجياله ، وأثبت عبر تاريخه المجيد أنه يستحق التسمية ، يستحق لقب شعب الجبارين.
لم يمر الشعب الفلسطيني بمرحلة أسوأ من هذه المستمرة من بداية الألفية الثالثة؛ ولكنه أثبت أن الزمن في قاموس شعب حر يتحدد في إرادة جمعية صلبة وعصية على الكسر، ولا يقاس بالمعطيات الواقعية من حوله. خلال العقدين الماضيين تمكنت إسرائيل من إنهاء مسار أوسلو وقتل الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات، وحولت السلطة الفلسطينية من بعده إلى حالة أشبه ببلدية تابعة لها، وحاصرت غزة منذ 16 عاما وحاولت خنقها بالتجويع والحروب. توسع الاستيطان وتمادت أساليب الإذلال حتى وصلت غطرسة المحتل إلى استباحة المسجد الأقصى في الأشهر السابقة لطوفان السابع من أكتوبر.
ومن حيث لم يتوقع المحتل جاء طوفان الأقصى ليثبت أن الكيان الإسرائيلي ليس سوى كومة قش أمام إرادة الحرية والكرامة، وأنه ليس قادرا على البقاء دون داعمه وشريكه في جرائمه الولايات المتحدة الأمريكية، الدولة الأكبر في العالم.
عادت القضية الفلسطينية إلى جدول أعمال العالم بعد أن كانت محاصرة في زاوية التهميش وتنتظر استكمال التطبيع واستواء مخطط تصفيتها الذي تتواطأ لإتمامه دول ومحاور، ونظام عالمي باتت تؤرقه هذه القضية وينتظر بقلق وإلتياع اليوم الذي تطوى فيه إلى الأبد.
لا شيء في خارطة ما قبل 7 أكتوبر يأسف عليه الشعب الفلسطيني. كانت غزة محاصرة والاستيطان يتسع في الضفة والقطاع، وغطرسة المستوطنين في ذروتها تستبيح الأقصى. لا مسار سياسي ولا إهتمام دولي، والإحتلال مطلق اليد يفعل ما يشاء. عربيا وإقليميا، كان قوس التطبيع على وشك الإكتمال، طبعت دول خليجية وعربية دون مقابل ولا شروط ولا سلام، وبقيت السعودية تحاور لمقايضة التطبيع بوهم الأمن والحماية من إيران. قيل أنها وضعت بندا عن مشروع نووي وطلبت من أمريكا الموافقة عليه؛ غير أنه يعبر عن نزق طفولي لا عن فكرة جادة ، فمثل هكذا مشروع يتم العمل عليه بجدية لسنوات طويلة بإصرار ويحتاج إلى إستقلال تام للقرار الداخلي وميزان قوة يسنده ، وليس سلعة إستهلاكية يتم طلبها فتلبى فوراً.
وجه الخراب الآخر في المنطقة، محور المقاومة بزعامة إيران مبني على تحقيق المصلحة الإيرانية أولاً، ورغم دعم طهران المحدود لحركة حماس إلا أنها إستراتيجيا تضع مصلحتها أولا، وهي حاليا المراوغة حتى إنجاز أول قنبلة نووية، ولا تضع مواجهة إسرائيل ضمن أولوياتها. يمكن أن تحدث هذه المواجهة عندما تجد إيران نفسها موضع تهديد مباشر عبر الحرب أو وضع يجبرها على الحرب، أما التصعيد لتغيير مسار القضية الفلسطينية المهددة بالتصفية فلم يكن واردا لدى إيران، وهو ما أثبتته التطورات اللاحقة بعد 7 أكتوبر.
هذا هو الوضع السياسي الإقليمي المحيط بحركة حماس والقضية الفلسطينية قبل طوفان الأقصى. دول عربية تصنفها وتنظر إليها بعين العدو، ولا خيار أمامها سوى إنتظار مآلات لا شيء فيها يغري بالإنتظار.
عشر سنوات من حروب الثورات المضادة كانت برنامج حرب قذرة لتسوية المنطقة العربية بالأرض، وهو برنامج يمهد بلاد العرب كلها لتتسيدها إسرائيل.
بدى الأمر وكأن العرب أزيحوا من التاربخ : حروب أهلية ، صراعات طائفية ، تطبيع ، وفي الجوار إيران التي بدى وكأنها تمتد إلى خارج حدودها دون أن تضطر لعبورها عسكريا ، تمتد لتملأ فراغاً كما فعلت بعد الغزو الأمريكي للعراق ، أو لتملأ فراغا بعد إنهيار النظام الرسمي العربي وإستقالته من القضية الفلسطينية والقضايا العربية.
وخارج حسابات السياسة والقوى العسكرية ومثبطات الواقع الإقليمي والدولي ، جاء فعل الإرادة الفلسطينية المتجاوز لكل ما يقف أمام رغبته الجامحة لعمل شيء يربك الأعداء ويحول مسار الأحداث ويقلبها عكس ما ينتظره الإحتلال وداعميه في الغرب والمتواطئين معه في الأنظمة العربية.
لا يتغير التاريخ بعقلانية المهزومين ، من يتكيفون مع الظُلم ويكسرون أنفسهم للتوائم معه ومع تبعاته.
يتغير التاريخ بإرادة الشجعان ، وفعلهم الجامح وحتى الجنوني ، ولكن المنضبط بعدالة قضيته ، والمحكوم بإيمانهم بالحرية وعشقهم للكرامة والتحرر من الإحتلال وذل الحياة تحت حوافزه المهينة.
كل ما يفعله المحتل وداعمه الأمريكي لن يفلح في كسر إرادة الشعب الفلسطيني. حرب الإبادة تورط الكيان المحتل وتقرب نهايته ، وتضع سؤال حرية الشعب الفلسطيني أمام كل العالم دولاً ومجتمعا مدنيا وأحزابا وتيارات وأفرادا.
لم يختر الشعب الفلسطيني المجازر والحصار ، ولكنه أختار الحرية والكرامة والتمسك بقضيته العادلة. الحرب والمجازر والإبادة هي خيار العدو الذي يحتل الأرض الفلسطينية وينكل بشعبها على مدى 75 عاما هي عمر الإحتلال.
لم يوفر الفلسطينيين والعرب فرصة للتعبير عن رغبتهم في السلام إلا وفعلوها. قبلوا بحل الدولتين في 67 ورفضته إسرائيل وأفشلته. ذهبوا إلى أوسلوا، وتنكرت لها إسرائيل وتنصلت عن إتفاقياتها ، وحاصرت قائد الثورة والسلطة الفلسطينية ياسر عرفات وتخلصت منه بالحصار والإرهاب والسم في نهاية المطاف.
تاريخ الكيان الإسرائيلي هو تاريخ المذابح والحروب، وكلها فشلت في إجتثاث الشعب الفلسطيني وتركيعه ، ولم تفلح في إخماد روح المقاومة لدى شعب يأبى الإستسلام ، ويصنع المقاومين جيلاً ثائرا وراء جيل.
هذه الروح الحرة للشعب الفلسطيني هي من حولت اليوم غزة إلى محور فرز للعالم. محور فرز بين حكومات في الغرب تساند حرب الإبادة الإسرائيلية، وأغلبيات شعبية خرجت في تظاهرات تضامنية كاسحة تعبر عن رفضها للحرب وعن إنحيازها لحق الشعب الفلسطيني في الحياة وتقرير المصير.
غزة اليوم محور فرز بين من يعبدون القوة الغاشمة ومن يقدسون الحرية والحق والعدالة.
غزة محور فرز بين مؤيدي الظُلم وقتلة الأطفال والنساء والمدنيين، والمنحازين لكرامة الإنسان وحقه في الحياة والحرية.
غزة ليست فحسب مساحة 365 كيلو متر حولها الإحتلال إلى سجن كبير ويشن حرب إبادة ضد سكانها.
غزة اليوم هي من يعيد سؤال الحق والعدالة إلى كل ضمير في العالم. غزة اليوم هي من يحاصر الكيان الإسرائيلي ويضعه في قفص الإتهام والمساءلة في كل مدن العالم.
غزة هي القضية الفلسطينية العادلة لشعب يكافح من أجل التحرر من أطول وأسوأ إحتلال إستيطاني على وجه الأرض.
غزة هي قضية الإنسانية اليوم. هي التحدي الراهن أمام عالم كاد " تطوره " أن يلتهم إنسانيتة.
غزة تذكر العالم بمعايير مدنيته وحداثته وإنسانيته.
تذكر العالم أن القوانين الدولية ومواثيق حقوق الإنسان وحق الشعوب في تقرير مصيرها ومقاومة الإحتلال هي مواثيق كُتبت لتطبق على الجميع ، وتشمل الحقوق التي قررتها كل البشر دون تمييز.
وأمام فرز أخلاقي وقيمي وإنساني كهذا ، لا يليق بأي إنسان إلا أن يكون في جانب التضامن مع الحق والقضية العادلة والمظلومين ، لا في جانب الإجرام وقتلة الأطفال ووحشية ضمائرهم وآلتهم الحربية.
العقلانية الصورية والباردة في حالات كهذه ، تتحول درع خشبي عازل يستخدمه من فقدوا إنسانيتهم وقدرتهم على الإحساس بالمظلومين ، والتضامن مع كفاح شعب يسعى للتحرر من قبضة الاحتلال الأوسخ في تاريخ البشرية.
لا طريق ثالث بين الإنسانية والبربرية البدائية. لا حياد بين القاتل الفوسفوري وضحاياه في المستشفيات وحضانات الأطفال.
* موقع بلقيس نت