شيئا فشيئا يتحول نشاط جماعة الحوثي في جنوب البحر الأحمر إلى جزء ملتحم بمعركة إيران لتكريس نفوذها في المنطقة، رغم الأساس الأخلاقي لنشاط الجماعة الذي تركَّز حول منع سفن تابعة للكيان الصهيوني أو لشركة صهيونية أو لأحد الأشخاص المنتمين لهذا الكيان، ثم تطور الأمر ليطال السفن التي تحمل سلعا مستوردة من قبل هذا الكيان وتكون وجهتها موانئ فلسطين المحتلة.
ثمة كلفة جيوسياسية عالية سيدفعها اليمن الذي باسمه تُدير إيران جهدها العسكري في البحر الأحمر عبر جماعة جماعة الحوثي، مستغلة التغييب الخطير للسلطة الوطنية التي يفترض أن تمثل إرادة الشعب اليمني وتتصرف وفقا لهذه الإرادة، في خضم أزمةٍ وحربٍ هيمنتْ عليها الأطرافُ الإقليميةُ المتدخلةُ هيمنة كاملة وخططت من خلالها لإضعاف وتحييد دور الدولة اليمنية ونفوذها في البحر الأحمر وباب المندب.
إن ما يجري اليوم في جنوب البحر الأحمر وخليج عدن من شأنه أن يحول جهد الحوثيين العسكري الذي يكتنفه الغموض في هذه المنطقة إلى غطاء لتكريس المشروع السياسي ذي الصبغة الطائفية المدمرة لصيغة التعايش الوطني، ولحلم اليمنيين في استعادة الدولة الديمقراطية التي رسموا ملامحها في مؤتمر الحوار الوطني الشامل الذي تم تقويض نتائجه بالتمرد المسلح لهذه الجماعة؛ الذي كان محل ترحيب كبير من جانب الولايات المتحدة الأمريكية التي فوضت الحوثيين بمحاربة الإرهاب ولو على أنقاض الدولة اليمنية.
لذا لم يكن مستغربا أن يقوم الحوثيون بأول أنشطتهم العسكرية المزعزعة للدولة اليمنية في أعقاب انقلابهم على عملية تغيير ناجحة للشعب اليمني دشن بفضلها عهدا ديمقراطيا مفعما بالأمل، حينها صدَّر الحوثيون شعارات باركها الغرب بشكل واضح، ودارت حول مواجهة الإرهاب المزعوم، وتحت الغطاء الجوي الذي وفرته الولايات المتحدة بطيران الدرونز هاجموا محافظة البيضاء في وسط البلاد، ثم بدأوا إثر ذلك بالزحف نحو الجنوب بذات الذريعة وهي مكافحة الإرهاب.
توسل الغرب تلك الذريعة ليقدموا إسنادهم الكبير لجماعة الحوثي، ما أدى إلى تقويض مكاسب ربيع اليمن وتعظيم الحصة الجيوسياسية للجماعة ذات النفوذ المحدود، ما منحها فرصة كبيرة للوصول إلى أهدافها في تقويض ربيع اليمن وشق طريق "ثوري" منفصل؛ مستلهمة النموذج الإيراني ومستفيدة من الدعم الهائل الذي قدمته طهران تحت أنظار البيت الأبيض الذي كان يحكمه آنذاك الديمقراطيون بقيادة باراك أوباما.
اليوم نحن تقريبا أمام سيناريو يكاد يتكرر، فالهجمات الحوثية على سفن في البحر الأحمر لا يتبدَّى منها شيئٌ يمكن معاينته عبر مشاهد مرئية كتلك التي يجترحها المقاتلون في قطاع غزة بشجاعة نادرة في تاريخ الحروب التي شهدها ويشهدها عالمنا، كما لا يبدو أن العدوان الصهيوني الإجرامي على قطاع غزة قد تأثر أو أنه سيرتهن بأي قدر كان إلى الضغط الذي يمارسه الحوثيون في البحر الأحمر، خصوصا بعد أن وضعت واشنطن ولندن ثقلهما العسكري لمواجهة هذا الضغط، والذي لا يكاد يتوقف على التعامل العسكري الخشن بل تطور إلى ممارسة حزمة من الإجراءات العقابية ضد جماعة الحوثي شملت إعادة إدراجها في قائمة الإرهاب الأمريكية وإضافة 4 من القادة العسكريين البارزين للجماعة إلى قائمة العقوبات الأمريكية والبريطانية.
إن أكثر ما يستفز اليمنيين اليوم أن بلدهم أصبح ساحة مستباحة لنفوذ الدول الأجنبية من أمريكا إلى إيران مرورا ببريطانيا والسعودية والإمارات، وما يحدث اليوم يؤشر إلى المخاطر الناجمة عن غياب الدولة اليمنية الذي تتحمل تلك الدول المسؤولية المباشرة عنه، فقد تآمرت على اليمن بمستويات متفاوتة، وهندست المشهد اليمني ليبدو عبثيا بالقدر الذي نراه اليوم والذي سمح للحوثيين بالتحكم بمقدرات دولة والتصرف كتنظيم ما دون الدولة.
حينما شعرت الصين، وهي مصنع العالم دون مبالغة، بأن ثمة خطرا يهدد تجارتها التي تمر عبر البحر الأحمر نتيجة نشاط الحوثيين ذهبت إلى طهران، وقيل إن الموفدين الصينيين حملوا رسائل تتسم بالحسم بشأن التأثيرات السلبية المحتملة لهذه الهجمات على العلاقات بين بكين وطهران. للصين مبررها القوي، فالبحر الأحمر وموانئه أيضا جزء من مشروع "الطريق والحزام" الصيني، وحضور أمريكا في هذا الممرر بذريعة منع الهجمات الحوثية على السفن التجارية، قد يمنح واشنطن فرصة كبيرة لزيادة سطوتها في هذه المنطقة الحيوية من العالم، خصوصا أنها تتصرف وفقا للقرار رقم (2722) الصادر في العاشر من كانون الثاني/ يناير عن مجلس الأمن الذي قد يرسي قواعد جديدة في القانون الدولي فيما يتعلق بتأثير الدول على أمن البحار الإقليمية، على حساب أدوار الدول المطلة عليه.
فقد أثنى قرار مجلس الأمن على "الجهود التي تبذلها الدول الأعضاء -في إطار المنظمة البحرية الدولية- لتعزيز سلامة السفن التجارية وسفن النقل من جميع الدول ومروها بأمان عبر البحر الأحمر" و" شجع على مواصلة الدول الأعضاء بناء وتعزيز قدراتها، ودعمها لبناء قدرات الدول الساحلية ودول الموانئ في البحر الأحمر وباب المندب بهدف تعزيز الأمن البحري".
سيبقى اليمن بالتأكيد خارج هذه الترتيبات بسبب غياب سلطة وطنية قوية وذات سيادة، واستمرار الصراع دون حل ودونما أفق واضح يفضي إلى سلام مبنى على وفاق وطني؛ لا يبدو أن الحوثيين جاهزون للذهاب إليه في ظل تنامي نفوذهم المعنوي على وقع مواجهة استعراضية نادرة بين جماعة مسلحة وإمبراطوريتين؛ إحداهما سابقة والأخرى تمثل القوى الأعظم في العالم. ويا للمفارقة، فجماعة الحوثي مدينة لوجودها في الجزء المثمر من اليمن إلى الضغوطات الأنانية والخبيثة التي مارستها هاتان الإمبراطوريتان لتكريس الانقسام الطائفي، ومنح إيران فرصة نادرة لممارسة النفوذ المادي والمعنوي في مركز ثقل حضاري عربي تاريخي آخر في منطقتنا هو اليمن.
* عربي 21