في ظل تاريخ حافل بالصمود والتحدي، يستعرض هذا المقال حقبة من تاريخ النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، خلال فترة حصار اقتصادي قاسٍ تحت وطأة الظلم. حيث يتجلى الصمود في وجه الحصار الاقتصادي، الذي لم يثنِ النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه عن الدعوة إلى الحق، وتحدي القوة والإعلام.
صمود الأمة والحاجة إلى تحالف إنساني لكسر حصار غزة
ثلاثة أعوام قضاها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ومن انحاز إليه من عشيرته في شعب أبي طالب، يئنون تحت وطأة الحصار الاقتصادي الغاشم، حيث مورست بحقهم سياسة التجويع لإثنائهم عن دعوة الحق.
ثلاثة أعوام مُنعت فيها المؤنة من أن تصل إلى المُحاصَرين، إلا ما كان يصلهم في جنح الليل ممن لم تزل في قلوبهم بقية من رحمة، لا تكاد تسمن أو تغني من جوع إزاء هذه الأعداد الغفيرة، حتى أكلوا ورق الشجر وجلود الحيوانات.
في الشعب تعالت صرخات الأطفال وأنين النساء من فرط الجوع، ونال الحصار من جسد الزهراء فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى ظل الوهن يلازمها بقية حياتها.
ويروي أهل السير أن سعدًا بن أبي وقاص خرج ليلةً والجوع يطحنه، فتحرك شيء من تحته أرضًا، فالتمسه بيده، فإذا هو قطعة من جلد بعير، فأخذها من فرط قسوة الجوع، فغسلها بالماء، وأحرقها، ثم كسرها، وسفّها بالماء.
ثلاثة أعوام من الصمود، حرّكت بعض القلوب الميتة، إذ تعاهد نفرٌ من قريش على كسر ذلك الحصار الذي نفذوه بحق أولي الأرحام والأقارب، استطاعوا تكوين جبهة معارضة لرأس الطغيان أبي جهل لنقض صحيفة بنود المقاطعة، واستثمروا صدق ما أخبرهم به النبي صلى الله عليه وسلم أن الصحيفة قد أكلتها الأرضة، فتقبل الناس فكرة فك الحصار.
التجويع سياسة متبعة من كل قوى الشر عبر التاريخ، لأجل تحقيق انتصاراتهم المزعومة يبيحون لأنفسهم قتل الناس جوعا، لا يرحمون طفلًا أو امرأة أو شيخًا ضعيفًا، في مشهد متكرر تُذبح فيه كل القيم الإنسانية.
هي السياسة نفسها التي يمارسها الاحتلال الإسرائيلي ضد شعب غزة، وخاصة في الشمال، الذي يعاني من مجاعة حقيقية تنذر بالهلاك، قد يمكن لهذا الشعب أن يبقى على قيد الحياة بدون كهرباء، بدون إنترنت، بدون بيوت، بدون خدمات، لكن كيف يبقى على قيد الحياة مع الجوع؟
إن كان المسلمون في حصار الشعب أكلوا ورق الشجر والجلود ووهت أجسادهم، فإن أهل غزة المحاصَرين قد أكلوا كذلك أوراق الشجر، وأعلاف الحيوانات، وربما يقف الواحد منهم أيامًا في طابور للحصول على بعض حفان من الدقيق ثم يعود خالي الوفاض، وليس لأهل غزة ماء يشربونه سوى مياه ملوثة تنذر بحلول الأوبئة في ظل انهيار القطاع الصحي، بسبب الاستهداف الصهيوني المستمر للمستشفيات.
وكما كانت بعض المؤنة تدخل خلسة إلى الشعب، لا تكفي لسد احتياجات المحاصرين، فإن الأمر نفسه يتكرر في حصار غزة، فعلى الرغم من تكدس آلاف الشاحنات خلف معبر رفح، تنتظر أن يجود عليها المحتل الصهيوني بإذن الدخول، لا يلج القطاع سوى عدد محدود جدا من الشاحنات، والتي إن سمح لبعضها بالمرور تعرض لمصاعب الطرق المدمرة والإجراءات التعسفية التي يمارسها الاحتلال لتعطيل دخولها إلى أهل غزة، وما يدخل من هذا القليل يصل إلى جنوب القطاع لتستمر معاناته مع هذه الندرة الغذائية، بينما يبقى الشمال أشد معاناة لعدم وصول المعونات إليه.
كان المحاصَرون في شعب أبي طالب آية في الصمود، فلم يصدهم الجوع عن الاستمرار في التضحيات من أجل الدعوة المباركة، وعدم السماح لمشركي قريش أن ينفذوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهنا في غزة صمود مشابه، فهناك في شمال غزة، أكثر من 650 ألف فلسطيني صامد لم يبرح أرضه، رغم القصف، ورغم الجوع، لا لشيء إلا لوعيهم وإدراكهم أن العدو الصهيوني يريد تهجيرهم لعزل هذه المنطقة والاستيلاء عليها وفرض الأمر الواقع على أرضها، فوقف هؤلاء الصامدون يواجهون شبح الموت قصفًا وجوعًا من أجل إفشال مخطط التهجير.
من جانب آخر، تم فك حصار الشعب بمحاولات جريئة اجتمعت فيها آراء الوجهاء لكسر الحصار الظالم، فلم يستطع رأس الطغيان أبو جهل أن يواجهها.. وهذا ما ينبغي أن يكون مع حصار غزة، لابد من اجتماع الرأي حول خطوات جريئة تكسر الحصار، الذي لن يتم كسره عن طريق الاستجداءات ورفع المظالم إلى المنظمات الدولية العبثية، التي لم تقدم على إدانة العدو الصهيوني أو تطالبه بوقف إطلاق النار.
العدو الصهيوني لن يضيره أن تتعفن الأغذية التي تتكدس في آلاف الشاحنات خلف معبر رفح، فالمشكلة ليست مشكلة توافر مواد إغاثية، لكنها مشكلة إرادة عربية ضعيفة عاجزة عن إدخالها.
أضم صوتي إلى الأصوات التي انبعثت لاتخاذ أحد هذه المواقف الجريئة اللازمة لكسر الحصار، عن طريق الإنزال الجوي، الذي سبق وأن نفذته الأردن مرتين عقب اندلاع الحرب.
الجيش الإسرائيلي لن يقدم على التصدي لطائرات مختلفة الجنسيات تمثل تحالفا إنسانيا لكل الدول التي تنشد بشكل جدي إدخال المساعدات، أو حتى الدول التي تدعي رغبتها في ذلك وتتحجج بالتعسف الإسرائيلي، فتلك هي فرصتها لإيصال المساعدات إلى القطاع، فالاحتلال لن يعلن الحرب على مجموعة دول لم تفعل شيئًا سوى إنزال المساعدات جوًّا.
وقد بدأت بالفعل حملة عالمية تجمع توقيعات تطالب حكومات أمريكا وتركيا والسعودية والأردن ومصر والكويت وقطر والإمارات، لتشكيل تحالف إنساني يهدف إلى كسر الحصار عن طريق الإنزال الجوي للمساعدات، لكننا بدورنا لا نعوّل على أمريكا في فعل شيء يتعارض مع رؤية الاحتلال، لذلك ينبغي أن تشمل مطالبات كسر الحصار، الدول العربية والإسلامية وروسيا والصين والدول الإفريقية.
الإغاثة جوًّا أمر معروف في تاريخ الحروب، ومعترف به دوليا، وتقره منظمة الصليب الأحمر في أحوال تتطابق تماما مع الوضع في غزة، وتم تنفيذه في الحرب العالمية في حصار برلين وحصار دنكيرك.
الأمر يحتاج إلى إرادة صادقة من هذه الدول، فالتاريخ لن يرحم أولئك المتخاذلين الذين يتركون شعبا يموت جوعا من أجل حريته والتمسك بأرضه، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.