لم يكن الأمل بتأسيس مرحلة جديدة من السلام والاستقرار في اليمن ضعيفا كما هو اليوم، ونحن نشاهد جماعة الحوثي؛ الطرف الأبرز في الصراع على الساحة اليمنية، تختط مسارَ صراعٍ موازيا؛ بأجندة جديدة وأعداء جدد من العيار الثقيل، أبرزهم الولايات المتحدة وبريطانيا ومعظم الدول الغربية.
يبدو الجانب الأهم في العملية السياسية؛ المتمثل في السلطة الشرعية، محطما على كافة المستويات السياسية والاقتصادية والعسكرية، ومرتهنا بشكل لا يصدق لإرادة دولتي التحالف المنحل، على نحو ما كشفت عنه عملية تعيين رئيس جديد للحكومة، هو الدكتور أحمد عوض بن مبارك.
فقد لعبت السعودية وحدها الدور الأبرز في ترجيح كفة بن مبارك، مع الإبقاء على بقية الوزراء بقرارات تعيينهم السابقة، خشية الذهاب إلى فشل مستدام يُبقي الشرعية دون حكومة متفق عليها، بعد أن أظهر المجلس الانتقالي الجنوبي المدعوم من الإمارات، نيته في الاستئثار بحكومة يستخدمها في تعطيل الدولة وتكريس مشروع الانفصال.
وبقدر ما يمثل عدم تعافي السلطة الشرعية ومعسكرها مؤشرا على تضاؤل فرص الذهاب إلى سلام في اليمن، فإن الانعكاسات الأسوأ على عملية السلام المتعثرة؛ التي ترعاها الأمم المتحدة، تأتي من النشاط العسكري للحوثيين في البحر الأحمر، لا لكونه عملا أخلاقيا يتصل بأقدس قضايا أمتنا، ولكن لمخاوف من ارتدادات هذا النشاط على الداخل اليمني.
فالحوثيون- كما يرى أغلبُ اليمنيين المهتمين بالشأن العام- يخفون هدفا واضحا من وراء نشاطهم العسكري في البحر الأحمر. إذ يتجهون نحو تأسيس حقائق جديدة على الأرض، مبنية على نفوذهم الراهن المستمد من المواجهة العسكرية الغامضة التفاصيل؛ مع الولايات المتحدة وبريطانيا، مما ينذر بأن تصبح الأطراف اليمنية، بفعل تلك المواجهة، مجرد فواعل هامشية، تماما كالحالة اللبنانية، وهذه وصفة لوضع أكثر من 30 مليون إنسان في دوامة لا تنتهي من الصراع والدماء.
المتحدث باسم جماعة الحوثي، ورئيس فريقها التفاوضي، محمد عبد السلام فليتة، في أحدث تصريحات أدلى بها لجريدة الشرق الأوسط السعودية، أكد أن نشاط جماعته العسكري في البحر الأحمر منفصل تماما عن التطورات المرتبطة بالتسوية في اليمن، في رسالة طمأنة من الجماعة للجانب السعودي الذي نأى بنفسه عن الضربات الأمريكية غير المؤثرة لصواريخ الحوثيين. وعزز ادعاءاته بما اعتبره تقدما في التفاهمات مع السعودية والتي جرت قبل ثلاثة أشهر.
لكن فليته تجنب الإقرار برغبة جماعته في الذهاب إلى بحث الاستحقاقات السياسية لعملية السلام التي ترعاها الأمم المتحدة، وتمسك بأولوية الملف الإنساني، الذي يراه قضية تخص جانبين؛ أحدهما جماعته، والآخر هو السعودية.
هذه القناعة المعبرة عن رغبة الحوثيين في التملص من جوهر العملية السياسية؛ ترافقت مع بقاء الموقف الحوثي على حاله من الدور السعودي في هذه العملية، أي رؤيته للرياض بأنها طرفٌ مقابل في الحوار، كما هي في الحرب، وليست راعية له؛ على الرغم من محاولة الصحيفة تمرير هذا الأمر عبر مداخلة لخبير سعودي في ذات التقرير الذي نشرته الجريدة.
النفاق في هذه المرحلة هو العقيدة الجيوسياسية المهيمنة على المقاربات الأمريكية والبريطانية والإقليمية في اليمن، التي منحت الحوثيين دورا كبيرا على الساحة اليمنية، بما يدفع إلى الاعتقاد بأن الضربات الأمريكية البريطانية الحالية ضد الحوثيين إنما هدفها ترويض ذلك الدور، وليس إنهاءه.
فلم تبرهن تلك الضربات، في ظل الحياد السعودي، على أن الحوثيين قد تحولوا إلى عدو يتعرض لتهديد وجودي؛ كالذي طال في 2014 الفاعلين السياسيين الوطنيين، المؤمنين بالعقد الاجتماعي الجديد الذي نتج عن حوار استغرق العالم 2013.
فقد مزّق الحوثيون مسودة الدستور الديمقراطي، وفرضوا خيار الحرب تحت حماية الطائرات الأمريكية دون طيار، مستفيدين أيضا من أموال الثورة العربية المضادة للربيع العربي، ومن الإمدادات الهائلة من الأسلحة الإيرانية التي حصلوا عليها؛ تحت أنظار البحرية الأمريكية والغربية، بل خرجوا من الحرب المخادعة للتحالف المنحل بمكاسب وامتيازات كبيرة؛ حوّلت اليمن إلى إحدى منصات المناورة الإقليمية التي تستخدمها إيران لتعزيز نفوذها العالمي، بأيسر الكُلف.
ترغب السعودية بالتأكيد على عدم التماهي مع الموقف العسكري الأمريكي في البحر الأحمر، حتى لا تعطي انطباعا بأنها لا تبدي الحساسية المفترضة تجاه العدوان الإسرائيلي الغاشم، وعملية الإبادة التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة والضفة الغربية.
لكن هذا الأمر إن لم يقابله تحركٌ حقيقي من جانب الرياض للتعاطي مع سيناريو مع بعد الحرب على غزة، والذي يسرق الحوثيون والجماعات المسلحة الشيعية التابعة لإيران جزءا مهما من عائدها الأخلاقي؛ فإن إيران ستحقق أهدافها كاملة في المنطقة، وستُدخل اليمن مرحلة سيئة من الصراع الذي لن يتوقف عند حدودها بالتأكيد.
* عربي 21