قبل سنوات زارتني في مكتبي في بعثة اليمن لدى اليونسكو في باريس الروائية والكاتبة الفرنسية فابيان هربان، قالت إنها تريد السفر إلى جزيرة سقطرى اليمنية لتكتب رواية، ضمن ثلاثية بدأتها في الهند، مروراً بعُمان، لتنتهي في اليمن، وتحديداً في جزيرة سقطرى. أضافت أنها تريد أن تدخل بعض الكهوف التاريخية في الجزيرة، لتعيش التجربة، تعيش الرواية، تعيش التاريخ، وتندمج بالطبيعة، ثم تخرج بروايتها بعد أن تعتزل للتأمل والاندماج مع الطبيعة والتاريخ لمدة شهر، تتزود خلاله بالرؤى والإلهامات اللازمة للرواية، وهذا ما كان.
أما المراسل الصحافي والمؤلف الإيطالي تيتسيانو ترزاني فقد اختار العزلة في كوخ ريفي في إحدى مناطق اليابان، بعد سنوات من الزحام في الشوارع والميادين واللقاءات الصحافية والتقارير، أثناء عمله مراسلاً صحافياً، وبعد عزلته خرج بكتاب ضمنه خلاصة تجربته الروحية والشعورية تحت عنوان: «قال لي العراف» مؤكداً أنه خلال شهر كامل من العزلة تحرر من القلق، حيث لم يكن معه أحد سوى رفيقه الوفي، الكلب باولي، لتأخذ حياته فيما بعد نهجاً آخر، يصبح معه معلماً روحياً كبيراً، يردد أن « المعلم الحقيقي الوحيد ليس في الغابة، أو في كوخ أو كهف جليد في جبال الهيمالايا، بل هو بداخلنا» ونكتشفه مع العزلة.
نحن – إذن – في حاجة للعزلة، في حاجة للحظات أو أيام أو أسابيع، وربما أشهر نبتعد فيها عن هذا التلوث السمعي والبصري والشعوري، نغسل عيوننا مما علق بها من مشاهد، وآذاننا مما دخلها من ضجيج، وحتى بطوننا من تخمة الطعام والشراب، والأهم أن نغسل أرواحنا مما علق بها من متاعب وأكدار، ونعيد ترتيب أفكارنا، وتصفيف مشاعرنا، وطرائق تفاعلنا مع الناس والطبيعة.
وقد مارس الأنبياء والمبدعون والفلاسفة العظام وكبار المتصوفة والمعلمون الروحيون وحكماء البشرية ضروباً من العزلة عن الناس لبعض الوقت، وربما طالت فترات العزلة لدى البعض، حيث نحتاج جميعاً قدراً متناسباً منها، لتجديد الالتحام بالحياة، وتقوية الاختلاط بالناس، واستشراف الأفكار والرؤى والنبوات.
وهناك من أصبحت العزلة بالنسبة له أسلوب حياة، لا يخالط الناس إلا قليلاً، ومن كبار الأنبياء في هذا الشأن يحيى بن زكريا الذي عاش في البراري والقفار، وكذا مبدعون كبار من مثل الشاعر الفيلسوف أبي العلاء المعري الذي عاش ـ حسب تعبيره ـ ثلاث عزلات، قال فيها:
أراني في الثلاثة من سجوني
فلا تسأل عن الخبر النبيث
لفقدي ناظري ولزوم بيتي
وكون النفس في الجسم الخبيث
كما دعا الفيلسوف الألماني أرتور شوبنهاور لحياة العزلة التي رآها مرادفاً للسعادة والحرية، عندما قال: «نحن لا نكون أحراراً إلا في عزلتنا» إذ تتحقق في العزلة «الحماية من حضور الآخرين» على حد تعبير الفيلسوفة الألمانية حنه آرندت.
ومع ذلك، هناك من توسط فجعل العزلة محطة للتزود بسكينة الروح وشفافية الرؤى، كي يعود للناس بصورة أجلى وعزيمة أقوى، وروح أكثر شفافية، ومن هؤلاء النبيان موسى ومحمد وغيرهما كثير من الأنبياء وكثير من المبدعين والفلاسفة والمفكرين والشعراء، فيما هجر بوذا القصر والمُلك، محاولاً الالتحام بالمطلق، في رحلة البحث عن السلام الروحي و«النيرفانا» الدائمة.
أما نبي الإسلام عليه الصلة والسلام، فكان يذهب بعيداً إلى أحد الكهوف الصغيرة قبل نبوته، ويعتزل في خلوات لم يكشف عن كيفياتها، ولا ماذا كان يفعل فيها بالتفصيل، ولكن المؤكد أن روحه السابحة في الملكوت كانت في حاجة للسكينة في رحاب الغياب عن الناس في الخلاء البعيد، بحثاً عن «الحق» وأنه كان يمارس «عبادة التأمل» بحثاً عن «المعشوق الإلهي» الذي أشار إليه الإمام الغزالي بروايته عن العرب أنهم قالوا: «إن محمداً قد عشق ربه» إثر اعتياد النبي الاعتزال في الغار، إذ أن «الإنسان إذا خلا لم ير غير الله» حسب ذي النون المصري.
والغار أو الكهف الذي كان يذهب إليه نبي الإسلام يسمى غار «حراء» وهو إلى الشرق من مكة المكرمة، على مسافة أربعة كيلومترات من المسجد الحرام، وهو كهف صغير لا يتسع إلا لأربعة أشخاص، ولذا سمي غاراً، ومن يكون فيه يرى على البعد مكة والكعبة والبيت الحرام، وكان النبي يقضي فيه شهر رمضان، وبعض أيام أخرى من السنة.
مر نبي الإسلام ـ إذن ـ قبل مبعثه، حسب السيرة بمرحلة من القلق الروحي، كان يتوق فيها إلى معرفة الله، وهي مرحلة يمر بها من ينتقل من مقام روحي إلى آخر، حيث كان النبي الكريم «يتجافى» عما وجد عليه قومه من تقديس للأصنام ووأد للبنات وغيرها من تقاليد العرب قبل الإسلام، ويتهيأ للانتقال لأطوار روحية أكثر شفافية، وهي مرحلة الاعتزال الجزئي الذي ذكر كتاب سيرته أنه كان يمارسه في الغار أثناء شهر رمضان، للبحث عن الحقيقة التي فيها سكينة الروح وملاذ الفكر.
تقول زوجته عائشة: «حُبّبَ إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه».
وتقول سيرة النبي إن «الوحي» جاءه في غار حراء، في شهر رمضان، في إشارة إلى العلاقة التي تربط الوحي والإلهامات والرؤى الروحية والاعتزال والتأمل والتفكر في حقائق الوجود، على طريق الإنسان الطويل – طريق حراء – إلى الله، حيث الربط بين المكان (حراء) والزمان (رمضان) والوحي، والاعتزال والتحنُّث، وهو التعبد الذي كان يمارسه النبي قبل بعثته، وفيه كثير من التأمل والإلهامات الروحية.
وتنفتح كلمة «وحي» على دلالات إشارية، حيث تُشتق من (أوحى) أي أشار، أو أومأ، فالوحي ليس كلاماً مباشراً، بل ضرب من الكلام «الخفي الإشاري» الذي يحتاج تلقيه واستيعابه شروطاً خاصة، بحضور كلية الإنسان في روحه وقلبه وعقله، وهو كلام أقرب إلى اللغة الإشارية الرمزية، ومن هنا كان على الذين يقاربون تفاسير القرآن الكريم أن ينطلقوا من منطلق «الوحي الإشاري» لا «اللغة المباشرة» حيث متطلبات «الحضور» بمعانيه الروحية والذهنية والنفسية، وهي المتطلبات اللازمة لتلقي إشارات هذا الوحي العظيم.
والوحي مرتبط برمضان، وهو – بدوره – مرتبط بالصوم المرتبط بصفاء الذهن والحكمة، ناهيك عن فوائده الصحية الكثيرة. ويبدو أن الجوع كان نمط حياة نبي الإسلام الذي روي عنه أنه «ما شبع من خبز قط ولا لحم» وروي عنه كذلك قوله «ما ملأ ابن آدم وعاء شراً من بطنه» حيث متلازمة الصيام وصفاء النفس والذهن والروح، وحيث شُرع الصوم، لأن هناك ظمأ لا يرويه إلا العطش، وفاقة لا يشبعها إلا الجوع، وهي معان لا يدركها إلا أهل التجربة والوجد والأحوال، أهل الروح الذين هم أهل الله.
ولا شك أن من أهل الروح رائدهم الأكبر نبي الإسلام محمد عليه السلام الذي كان كثير الصيام والتأمل، والذي دخل الغار ذات يوم في رمضان باحثاً عن الله، وواظب على تأملاته، حتى فوجئ ذات ليلة ـ وهو في مرحلة «حضور روحي تام» ـ بانشقاق الغيب، وتدفق الرؤى والفيوضات الإلهية في كلمات ستصبح فيما بعد شعار الإسلام، ومفتتح الوحي، وفيها إحالة رمزية إلى ارتباط القراءة بمحتواها الروحي، وإشارة إلى تلازم العلم (اقرأ) بالإيمان (باسم ربك) في الآيات الواردة في باكورة الوحي: «اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم» لتبدأ قصة رجل دخل الغار حائراً يبحث عن الله، ثم خرج منه نبياً عظيماً، ومعلماً روحياً في عداد الخالدين.
* القدس العربي