في التاريخ الديني يذكر أن بعض الأنبياء حمل سيفاً إلى جانب الدعوة، في حين لم يحمل أغلب الأنبياء السيف. ومن الأنبياء المحاربين داوود ومحمد، على عكس المسيح الذي وجد في ظل دولة وسلطة قائمة، فلم يكن من شأنه الحرب أو سن القوانين.
ربما لا يروق لبعض المثاليين تصور نبي يحارب، ولا يستسيغون ربط القيم الروحية بالسيف، لكن المشكلة أن الواقع لا يسعف هؤلاء الحالمين مع كثرة من يقطعون بالقوة طريق القيم والأفكار، وهؤلاء يحتاجون السيف، كي تجد الرسالة طريقها للناس، مع اختلاف الناس بين من تنفع معه الكلمة، ومن لا يجدي معه إلا السيف.
يرى جويل هايوارد – وهو مسلم نيوزلندي – في كتابه «النبي المحارب: محمد والحرب» أن التصور الحديث الذي يبرز النبي عليه الصلاة والسلام على أنه معاد للحرب على طول الخط، أو أنه داعية سلام في كل الظروف والأحوال، هذا التصور غير دقيق، ولا يدعمه الواقع، ولا يتطابق مع صورة النبي في المصادر الإسلامية الأولى، وفي ظروف الحياة العربية في القرن السابع الميلادي، وهو تصور ينطلق من النظرة السلبية للحرب، واستبعاد أن يخوضها أنبياء. كل ذلك مع تأكيد هايوارد على أن محمداً كان ملتزماً أخلاقياً، وكان يرى أن السلام هدف نبيل، وهو القائل: «لا تدعوني قريش إلى خطة، يسألونني فيها صلة رحم إلا أعطيتهم إياها» لكنه لم يكن يتردد في استعمال القوة، عندما يرى أن ذلك مناسب، حيث كانت الحرب بالنسبة له وسيلة لتحقيق أهدافه، لا غاية في حد ذاتها.
كان نبي الإسلام ـ إذن ـ من تلك الفئة من الأنبياء التي أجازت لنفسها وأتباعها حمل السيف، وكان أحد عباقرة الحرب، بالإضافة إلى كونه واحداً من قلة من الأنبياء الذين نجحوا في ترسيخ العقائد والقيم التي دعوا إليها في مساحات واسعة من الأرض.
والمدهش في شخصيته – بغض النظر عن الموقف منه ومن رسالته أنه وهو الذي لم يتلق تدريباً عسكرياً كافياً، أو عرف عنه خوض معارك كبيرة، قبل نبوته، إلا أنه انتصر في معظم المعارك التي خاضها.
يقول ريتشارد غابرييل:
إن النبي «خاض ثماني معارك كبرى، وقاد ثماني عشرة غارة، وخطط لثمان وثلاثين عملية عسكرية أخرى لم يكن هو قائدها المباشر، وإن كان القادة يتلقون التعليمات العسكرية منه. أصيب مرتين في المعارك، وتم اجتياح قواته أو معاقله مرتين قبل أن يتمكن من استعادة زمام المبادرة، وإعادة ترتيب قواته، وقلب الطاولة على الأعداء».
وكما وُجد ـ عموماً ـ من لا يحبذ صورة «نبي محارب» وُجد من المسلمين من ينسب انتصارات نبي الإسلام للمعجزات الإلهية فقط، وقد كان النبي بالفعل في بداية كل معركة يطلب النصر من الله، لكن هذا لا ينفي أنه كان: «مفكرا استراتيجيا، وقائدا ميدانياً، ومحارباً بطولياً، وزعيماً سياسياً» حسب غابرييل الذي يرى كذلك أن محمداً كان أول من ابتكر تكتيكات «الحروب الخاطفة» في عدد من عمليات «الكر والفر» التي كان يمارسها ضد أعدائه من قريش والقبائل البدوية المتوثبة لغزو مدينته.
أما جويل هايوارد فيتجاوز وجهة النظر التقليدية لدى المسلمين بأن النبي برع في الحرب لسبب وحيد، وهو أنه كان نبياً يوحى إليه، بل يؤكد على كفاءة النبي البشرية في القيادة والتخطيط، وقد سبقه لذلك عباس محمود العقاد بتأكيده على «عبقرية محمد» التي كان لها دور في نجاحاته العظيمة، لأن الله إنما أيده عبر اتخاذ الأسباب.
ومن أسباب النصر التي اتخذها محمد بناء الجيش، بشكل منسجم مع تقاليد الحياة العربية آنذاك، حيث كان يعطي القيادة للوجاهات القبلية ـ بحكم تجاربها القتالية ـ وينتخب لسلاح الفرسان أمهر العرب في هذا الميدان، وكذا الرماة، وكان المشاة خليطاً من أبناء مكة والمدينة، وممن وفد إليه من البوادي، وكان هو المرجع النهائي للقيادة والتحكم والسيطرة. وقد عمل على بناء جيشه، وزيادة قدراته البشرية والتسليحية والتدريبية، فارتفع عدد مقاتليه من حوالي 300 مقاتل في معركة بدر إلى عشرة آلاف في فتح مكة، وخلال شهر بلغ 12 ألفاً في حنين، ليصل لأكبر حجما في تاريخ الجزيرة بحوالي 30 ألفا في غزوة تبوك، (حسب أغلب المصادر التاريخية). والأمر ذاته بالنسبة لسلاح الفرسان الذي تطور من فارسين في معركة بدر إلى 800 فارس في حنين، ثم عشرة آلاف في تبوك.
وكان من عوامل هذه القدرة على التجنيد المبدأ الذي وضعه النبي لأتباعه، وهو مبدأ الهجرة شبه الإلزامية إلى المدينة، الأمر الذي جعله قوة ضاربة في وسط الجزيرة، وهو المبدأ الذي تجاوزه بعد فتح مكة، بقوله: «لا هجرة بعد الفتح» لأن طاقة المدينة الاستيعابية لم تعد تتحمل المزيد من المهاجرين، وفي هذا إشارة إلى تطويعه التكتيكات المختلفة، من تحشيد وتفريق، حسب المقتضيات العسكرية والسياسية، في منهج يقترب من البراغماتية الواقعية التي كانت جزءاً من تعاليمه الدينية.
وكان بالإضافة للقوى البشرية في الجيش يهتم بالتسليح، وكانت الغنائم أحد أهم موارد السلاح، حيث كان يأخذ أسلحة الأسرى والقتلى من أعدائه، وفوق ذلك كان يفدي بعض الأسرى مقابل تزويد الجيش بالسلاح، ناهيك عن استمرار عمليات التدريب والتأهيل التي كان يحث دائماً عليها. (علموا أبناءكم السباحة والرماية وركوب الخيل).
وكان إلى جانب العمل العسكري يهتم بالجانب الاستخباري، حيث أنشأ جهاز استخبارات دقيقاً، ينقل له خبايا المؤامرات ضده، واستطاع به اختراق صفوف أعدائه، ومعرفة نقاط قوتهم وضعفهم من الداخل، وكان عمه العباس – مثلاً – يقود خلاياه الاستخباراتية التي كانت ترفع له تقاريرها عن الأوضاع الداخلية في مكة، حيث تم تحديد «ساعة الصفر» لفتحها، بناء على عوامل كثيرة، في مقدمتها تلك التقارير.
كما كان يرسل «العيون» وهم فرق تجسس واستطلاع، كان يبثها على الطرقات على هيئة رعاة أغنام أو تجار مسافرين، يترصدون التحركات العسكرية والقوافل سواء من جانب قريش أو البدو الذين كان يفاجئهم بغارات سريعة، وبضربة استباقية فيما هم يتجهزون لغزو مدينته، بفعل براعة جهازه الاستخباراتي الذي قال عنه ريتشارد غابرييل إنه «نافس به جهازي مخابرات بيزنطة وبلاد فارس» انطلاقاً من رؤيته القائمة على أن «الحرب خدعة» لا تعتمد على القتال المباشر وحده.
وكان لـ« التحالفات القبلية» أهمية قصوى في «استراتيجية الحرب» لديه، حيث لجأ إلى التحالف مع بعض القبائل القريبة من قريش، لتشديد الخناق على خصومه. كما كان يوظف «المال السياسي» لخلخلة معسكر هؤلاء الخصوم، وضم بعضهم لمعسكره، ومن ذلك ما أطلق عليه في الفقه «سهم المؤلفة قلوبهم» في الزكاة، وهو تشريع بالغ الدقة والنجاعة، ضمن الحسابات الدينية والسياسية، نظراً لطبيعة العلاقات الاجتماعية والإنتاجية في مجتمع القرن السابع في الجزيرة العربية، مع الحرص على ربط كل تلك التكتيكات بإطارها الديني والروحي الأوسع، في سلوك فريد جمع بين المرونة والحزم، والسياسة والدين، والمصالح والقيم، ضمن منهج كُتب له النجاح والديمومة، على يد شخصية كانت لا تستنكف عن الاستشارة في أمور الحرب، وتأخذ بالمشورة، وتراجع خططها بناء على استشارات أهل الخبرة والاختصاص.
وقبل ذلك كله كان اختيار (يثرب/المدينة) داراً لهجرة النبي مرتبطاً بتفكيره العسكري، فهي بعيدة عن الاستهداف من طرف قريش، وقريبة من خطوط التجارة بين مكة والشام، ومحصنة بشكل طبيعي بالجبال، مما هيأها، لتكون عاصمة الدولة الجديدة، ومركز إمداد لوجستي، من منظور عسكري واستراتيجي.
وقد كان لهذا الموقع أبلغ الأثر في تحصيل كثير من النتائج الإيجابية، وفي مقدمتها فتح مكة التي لم يغزُها النبي إلا بعد أن أصبحت ساقطة ـ عسكرياً ـ في يده، بعد أن أنهكها من الخارج بالغارات السريعة، والحصار الاقتصادي غير التقليدي الذي لولاه لصعب فتحها، نظراً لقوتها البشرية والاقتصادية، ومكانتها لدى العرب.
تلك كانت بعض ملامح شخصية «نبي محارب» كان يأخذ بالأسباب، دون الاكتفاء بكونه نبياً مؤيداً بالله، لأنه آمن أن معجزات الله تجري على يد الإنسان المؤمن الذي يعد معجزة المعجزات الإلهية إذا أدرك كوامن السر الإلهي فيه.
ولا عجب بعد ذلك إذا جعله مايكل هارت على رأس أعظم مائة شخصية أثرت في التاريخ البشري حتى اليوم. صلى الله عليه وسلم.
*القدس العربي