سوت إسرائيل قنصلية إيران في دمشق بالأرض، وقتلت قائد قوات فيلق القدس في سوريا ولبنان محمد رضا زاهدي، في ضربة موجعة بمقتل قيادي من حجم وجيل قاسم سليماني، مع عشرة آخرين في عملية لم تعترف بها إسرائيل رسمياً حتى الآن.
إيران ردت بهجوم بانورامي واسع على طريقتها في الأعمال الدعائية، ثم ردت إسرائيل بهجوم آخر غامض، على طريقتها في الهجمات التي لا تتبناها بشكل رسمي، وخلال الهجمات المتبادلة انزاحت الكاميرا بشكل كبير عن تغطية المجازر الإسرائيلية في غزة، وبدأت السجالات، والهجوم والهجوم المضاد إعلامياً.
إزاء الهجوم الإسرائيلي على قنصلية طهران كان لا بد لإيران من رد، ولكن الرد ينبغي أن يتوفر فيه شرطان: أن يكون غير ضار لإسرائيل، وأن يحفظ ماء وجه إيران. أما عن كونه غير ضار، فذلك لأن الرد الضار سيتسبب برد إسرائيلي ـ وربما أمريكي ـ أكثر ضرراً، وربما يفجر صراعاً أوسع لا ترغب به طهران. كما أنه لا بد للرد الإيراني أن يحفظ ماء الوجه، وذلك لضرورة عدم اهتزاز صورة إيران أمام جمهور ما تطلق عليه طهران «محور المقاومة» كما أن الرد الذي يحفظ ماء الوجه ربما يتم التغاضي عنه من قبل إسرائيل، على رأي الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب في تعليقه على ضربة إيرانية سابقة ضد إحدى القواعد الأمريكية في المنطقة، حيث ذكر أن طهران أبلغته بموعدها قبل وقوعها، وأن الصواريخ لن تصيب الهدف، وأن الإيرانيين أبلغوه بأنهم لا بد أن يردوا، حفظاً لماء الوجه، وهو ما علق عليه ترامب بأنه يتفهمه.
وقد جاء الرد الإيراني بطريقة أشبه ما تكون بالمهرجانات الكرنفالية التي يراد منها لفت أنظار وإيصال رسائل، أكثر من كون الهدف إحداث ضرر بالعدو، ولتأكيد طبيعة هذا الرد، وحرصاً على عدم فهمه بطريقة مختلفة، فقد بدأ الرد بطائرات مسيرة يستغرق وصولها لإسرائيل ساعات طويلة، قبيل لحظات من إعلان مندوب إيران في مجلس الأمن أن طهران تعتبر أن كل شي قد انتهى عند هذا الحد، لتفادي أية تطورات.
والأحد الماضي خرج علينا المرشد الإيراني علي خامنئي بقوله إن «المهم هو إظهار قوتنا لا الأهداف» في إشارة واضحة إلى أن الهدف من هجوم إيران كان دعائياً استعراضياً، أكثر من كونه عملياً موجعاً، وهذا الهدف يتماشى مع ما هو معروف عن السياسة الإيرانية الشعاراتية، التي تجيد صناعة «الحدث الإعلامي» وإرسال رسائل، مع توخى الحذر في الانسياق وراء رغبات الجمهور للتحرك الفعلي.
وفيما اتخذ الهجوم الإيراني الطابع المذكور فإن الهجمات الإسرائيلية تأخذ طابعاً مختلفاً، حيث تكون مصحوبة بقدر كبير من الغموض والتكتم، وضخ أكبر قدر من التسريبات المتضاربة حولها، من أجل أن يتركز الحديث حول نتائج الهجمات على الأرض، أو يتمحور حول الفعل والمفعول به، مع تمويه الحديث عن الفاعل، وهي استراتيجية إسرائيلية مطردة، إذا ما استثنينا بعض العمليات التي تميل إسرائيل فيها إلى التخفف من سياسة التكتم إزاءها لأهداف محددة، دون التخلي كلياً عن سياسة الغموض الإسرائيلية المعروفة.
وبالنظر إلى طبيعة الهجمات المتبادلة بين الدولتين نجد أنها تأتي متسقة مع الأهداف المرسومة لكل دولة، فهدف إيران «دعائي جماهيري» وقد تحقق نسبياً، ولو ضمن نطاق جمهورها، وهدف إسرائيل «عسكري عملياتي» وهي تمضي في تحقيقه، بشكل متزايد، مع تكثيف ضرباتها ضد قواعد إيران وميليشياتها في سوريا ولبنان.
إسرائيل، وعلى الرغم من تراخيها ـ في السنوات الأخيرة – في الالتزام بسياسة «الغموض الاستراتيجي» إزاء هجماتها في سوريا، إلا أن تلك السياسة لا تزال هي السمة الغالبة على تلك الهجمات، انطلاقاً من طبيعة الهدف الذي تريد تحقيقه، وهو إيلام الخصم، وعدم استثارة ردة فعل دولية أو إقليمية، وهذه سياسة رأت تل أبيب أنها ناجعة في مواجهة إيران وميليشياتها، حيث التزمت بها إسرائيل إجمالاً، باستثناء بعض الحالات، وذلك لإيصال رسائل أكثر حزماً للخارج الإقليمي وأكثر طمأنة للداخل الإسرائيلي.
أما بالنسبة لإيران، فهدفها من كل ما يجري في الشرق الأوسط – كما هو معروف – ليس الدخول في حرب، نصرة للقضية الفلسطينية، كما تقول شعاراتها، ولكنها تسعى للاستفادة القصوى من تلك القضية، لتوسيع هيمنتها الإقليمية، دون أن تنزلق للحرب، وذلك على أساس مبدأ «الشراكة في الربح لا في الخسارة».
وانطلاقاً من تلك الاستراتيجية فإنه محظور في السياسة الإيرانية الدخول في حرب تؤدي إلى خسارة طهران مكتسباتها التي تحصلت عليها خلال العقود الماضية، سواء جهة بناء مصدَّاتها الميليشياوية في المنطقة، أو ما توصلت إليه من بنية عسكرية داخل البلاد، قد تتعرض للتدمير حال دخول إيران في حرب مباشرة.
وإذا كان هدف إسرائيل من ضرب القنصلية الإيرانية عملياتياً استراتيجياً، وإذا كان هدف إيران من ردها دعائياً إعلامياً، فإن رد إسرائيل على هجوم إيران يكاد يقترب من طبيعة رد إيران، وعلى العكس من طبيعة هجوم إسرائيل على القنصلية. في الرد الإسرائيلي على الرد الإيراني، كان لا بد من مراعاة حقيقة أن معظم الصواريخ والطائرات المسيرة الإيرانية قد سقطت من ذاتها أو تم إسقاطها، وأن إسرائيل لم تصب بأذى يذكر، عدا عن الرد الرمزي في اختراق الأجواء في فلسطين المحتلة، وهو ما دعا إسرائيل إلى رد باختراق الأجواء الإيرانية، مع ضربة دقيقة لنظام دفاع جوي (أس 300) الذي يحمي منشأة نووية، في رسالة مفادها أن إسرائيل قادرة على الوصول إلى البرنامج النووي رغم وجود أنظمة دفاعية، وهي رسالة رمزية أكثر من كونها ضارة لطهران، رغم تدمير أجزاء رئيسية في منظومة الدفاع الإيراني، حسب نيويورك تايمز.
ومن استقراء السياسات الإيرانية الحالية، نجد أنها – في جانب منها – تمثل مستخلصات دروس طهران من حربها على العراق خلال ثمانينيات القرن الماضي، حيث خرجت إيران بدروس كثيرة، ربما كان أهمها الدرسان التاليان: الأول ألا تخوض طهران حرباً مباشرة، لأنها هزمت في الحرب المباشرة مع العراق، وتجرع الخميني «كأس السم» والدرس الثاني هو أن الصواريخ مهمة في حسم المعارك، بعد أن أجبرت الصواريخ العراقية إيران على وقف الحرب.
واستجابة للدرسين، اهتمت إيران بإعداد وتدريب ميليشياتها في البلدان العربية، لتعمل على تنفيذ «حروب الوكالة» غير المباشرة التي، تنفيذاً لمخرجات الدرس الأول، وفي الدرس الثاني، عملت إيران على بناء برنامج صاروخي، ظلت تشتغل عليه لعقود من انشغال العالم ببرنامجها النووي.
هذه المنجزات التي حققتها إيران هي التي تصوغ طبيعة الهجمات وردود الأفعال الإيرانية بالشكل الكرنفالي الذي نشهده، و«الكرنفالية» في تلك الهجمات ضرورية لمخاطبة الجمهور، وفي الوقت ذاته فإن عدم إلحاق هذه الهجمات أضراراً تذكر ضروري لعدم توسعة الصراع الذي يعد هدفاً إيرانياً، كما ذكرنا سابقاً.
وبالحديث عن عدم توسعة الصراع، فإنه هدف مشترك لإيران وأمريكا، وقد فهمنا أسباب الرغبة الإيرانية في عدم توسعته، وأما واشنطن فإن رغبتها تنطلق من حرصها على الخروج من مستنقعات الشرق الأوسط، للتفرغ لمناطق أخرى أهم في الاستراتيجية الأمريكية التي تريد التركيز على روسيا والصين في الوقت الحالي. وبالحديث عن هدف عدم توسعة الصراع يمكن الاستنتاج أن الهدف الأمريكي الإيراني في عدم توسعة الصراع يعني بشكل تلقائي الانفراد بغزة، وحصر الدمار والقتل في القطاع الذي تستثمر إيران فيه أغلى استثماراتها السياسية، دون أن تدخل الحرب التي تنفي دائماً علاقتها بها.