على الرغم من أن ظروف البلاد في الوقت الحاضر تتطلب حوارات تتناول الخروج من المأزق السياسي، إلا أنه يمكن القول إن المأزق السياسي الذي وصلت إليه البلاد لم يكن بعيداً عن موضوع هذا الجدل الذي أخذ يقترب في البحث مما كان يعد محرماً الاقتراب منه بتكريس مسلمات، لم تكن هي المشكلة عند المجتمع، وإنما استخدامها عنوة لتكريس نمط بعينه في التفكير، ومن ثم صياغة الوعي المجتمعي لقبول أنماط معينة من الحكم، تقوم على الحق الإلهي المطلق، أو غير ذلك من الدوغما السياسية الدينية.
غير أن هذا الجدل إذا لم يقم على رؤية شاملة لحاجة البلد إلى تجاوز أزماته وتحقيق النهوض الشامل، ومغادرة الفخ الكبير الذي صنعه التطرف الديني لإغراق البلد فيه، فإنه لا معنى له، لأنه في هذه الحالة لن يكون سوى مجرد إعلان سطحي للإلحاد، وهي مسألة لا تحتاج لكل هذا الجهد في تعظيم الإلحاد أو انتقاده، لأنه يتحول إلى ثرثرة لا تعني المجتمع في شيء.
أما إذا كان الهدف من ذلك هو فتح مسار لتحديث الفكر السياسي، وخلق منابر تنوير للنهوض الشامل، فلا بد إذاً من الانطلاق من قواعد مختلفة في النقاش، لأن نهضة المجتمع لا علاقة لها مطلقاً بإنكار وجود الخالق أو إثبات وجوده، وإنما تتعلق المسألة بإعادة بناء مفهوم مختلف للدين في وعي المجتمع، غير الذي كرسه التطرف والتشدد والخرافة، والذي كان سببا في تخلف مجتمعاتنا حتى اليوم.
الدين حقيقة مجتمعية، لا يمكن إنكارها في كل المجتمعات المتقدمة والمتخلفة على السواء، غير أن الفرق هو أن المجتمعات المتقدمة تقدمت حينما جعلت الدين عنصراً محركاً للنهوض الاجتماعي، بينما المتخلفة منها تخلفت حينما سمحت باستخدام الدين في الاتجاه المعاكس لنهضتها.
لقد وضع "المتكلمون" أو ما يسمون بـ"أهل الكلام" في الفكر الإسلامي أنفسهم في ورطة عندما أرادوا إثبات وجود الله بالعقل، ذلك أنهم لم يعرّفوا العقل حتى يستخدموه علمياً في إثبات وجود الخالق، ووقفوا بمفهوم العقل عند " الفؤاد" الذي يقوم بوظيفة مزدوجة للعقل والقلب معاً، وأدى ذلك إلى عدد من الإشكاليات التي طالت الإيمان الذي يقوم على التصديق المطلق، وفتْح باب البحث في وجود الله بواسطة العقل، وهو الأمر الذي تمسك به الباحثون، كل من منطلق قناعته التي يريد أن يثبت صحتها.
الباحثون اليوم لا يمكن أن ينطلقوا من الصفر في مسألة أُشبعت بحثاً وتحليلاً وفيها مجلدات علمية ضخمة، لكن دون نتائج متفق عليها، وكاد البحث فيها أن يصل إلى توافق ضمني وهو أن تترك هذه المسألة لقناعة الإنسان دون أن تتدخل هذه القناعة في فرض خيار محدد بذاته بالقوة، حتى لا تكون مجالاً للصدام بين المجتمعات أو داخل المجتمع الواحد.
وسيتواصل البحث فيما وراء الطبيعة لمعرفة الأسباب والمحركات الرئيسية لها، ولن يتأثر الكون باكتشاف ما إذا كان وراءه خالق، أو أنه يتحرك بديناميات طبيعية واستاتيكية، سوى أن الذين يؤمنون بالخالق سيكافأون بالجنة، وأن منكروه سيكون مصيرهم النار، وفقاً لما يعتقدون، والطرفان مقتنعان بهذا الوعد والوعيد الذي قد ينتهي بهم جميعاً إلى العدم.
المهم الاتفاق على مشتركات تقيهم البؤس والحروب والألم في الحياة الدنيا.