ظهرت في القرن العشرين عدة نظريات سياسية وفكرية تدعو للتحرر من الاستعمار بكل أشكاله العسكرية والسياسية والاقتصادية، وتحولت تلك النظريات إلى أحزاب سياسية ذات طابع أيدلوجي بأهداف ورواء مستقبلية وفقا للنظرية السياسية التي يؤمن بها كل توجه سياسي.
وكانت غالبية تلك النظريات ذات أبعاد أممية اشتراكية أو قومية بعثية وناصرية وقوميين عرب أو ذات توجهات إسلامية.
وترتب على ذلك التنوع صراعات حزبية شديدة في النصف الثاني من القرن الماضي.
وجاء الميثاق مشروع الإجماع الوطني المتوازن الذي عمل على تفكيك الهويات العصبوية والانصهار في كيان الدولة الوطنية الجامعة ونبذ التعصب بكل أشكاله، وتحريم التبعية الأيديولوجية للخارج، وترسيخ الهوية الوطنية الجامعة، وبناء دولة المواطنة المتساوية وترسيخ قيم العدالة وتعزيز النظام الجمهوري، ومواصلة المسير نحو تحقيق أهداف الثورة اليمنية سبتمبر وأكتوبر.
ويبقي "الميثاق الوطني" رافعة وطنية فاعلة لتحقيق الشراكة الوطنية، يقول أرسطو أن أهم عوامل استقرار الدول، "هي مطابقة التربية لمبدأ الدستور. وإن أنفع القوانين، أي القوانين المصدق عليها بإجماع المواطنين تصير لغواً إذا كانت الأخلاق والتربية لا تطابق المبادئ السياسية الديمقراطية في الديمقراطية والأوليغرشية لأنه ينبغي أن يعلم حق العلم أنه إذا حاد مواطن واحد عن حسن السلوك فالدولة عينها تشاطر في هذا الإخلال بالنظام".
وهذا بالضبط ما أكد عليه مونتيسكيو في كتابه "روح الشرائع"، فهو يقول بأن الفضيلة التي تقوم عليها الجمهورية هي حب الوطن وما يرادفها ويتفرع عنها من فضائل كـ حب القوانين وحب المساواة، وهذه المحبة تستلزم تفضيل المرء للمصلحة العامة على مصلحته الخاصة.
ويسمي مونتسكيو هذه الفضيلة "فضيلة سياسية" تمييزاً لها عن فضائل الأخلاق والدين.
ويقول أن "الحكومة الجمهورية هي التي يُحتاج فيها إلى جميع سلطان التربية، فالخوف في الحكومات المستبدة ينشأ من تلقاء نفسه بين الوعيد والعقاب، والشرف في الملكيات يُعزَّز بالعواطف، وهو يعززها من ناحيته، غير أن الفضيلة السياسية هي إنكار الذات، وهذا أمر شاق على الدوام".
قدم الميثاق الوطني عقد اجتماعي يتواكب ومتطلبات العصر الحديث وثوابت الأمة العقدية والحضارية، فقد تحدثت المقدمة عن الدور الحضاري اليمني ومراحل النضال الطويلة للتحرر من الإمامة والاستعمار.
جاء في المقدمة:
"إن يمن اليوم، وهو يتقدم إلى الأمام في ظل الثورة اليمنية (سبتمبر وأكتوبر)، يستند في ذلك إلى رصيد ضخم من حصانة العقيدة، وعراقة التاريخ، لا يمنحه القدرة على التقدم فحسب، بل يحول بينه وبين النكوص، ويحمل جيل الحاضر مسؤولية تاريخية، ودوراً حضارياً يتلخصان في السعي بقوة وحماس وإخلاص، وبكل الوسائل المتاحة لهذا الجيل، لاستعادة تلك المكانة الحضارية والتاريخية لليمن، وطناً وشعباً، باعتبار أن انتصار الثورة في استمراريتها وتطورها، ثم تحولها إلى نهج ديمقراطي واضح"،
"وإذا كان لكل حضارة من الحضارات البشرية طابع متميز، أو سمات خاصة بين السمات المشتركة، فإن أبرز سمات الحضارة اليمنية توجيه منجزات الحضارة لخدمة المجتمع، ومن هنا كان اهتمامها بإقامة السدود، وقنوات الري، وطرق التجارة وتأمينها. "
"كما جاءت أهدافها خلاصة مركزة ومكثفة لتطور الفكر الثوري، عبر مسيرة الحركة الوطنية منذ الثلاثينات حتى قيام ثورة 26سبتمبر سنة 1962م، ومن هنا تميزت أهداف الثورة بوضوح الرؤية وعمق الوعي، وحددت بدقة معالم التغيير الجذري للواقع اليمني في جميع المجالات. "
الحقائق الخمس التي تصدرت الميثاق كانت زكائز أساسية لبناء الدولة ونهوض المجتمع:
إن نظرتنا إلى تاريخنا وتجاربنا السابقة، بالمقارنة لواقعنا الراهن تؤكد لنا حقائق هامة في نظرتنا إلى المستقبل هي:
الحقيقة الأولى:
إن شعبنا لم يصنع حضارته القديمة إلا في ظل الاستقرار والأمن والسلام، ولم يتحقق له ذلك إلا في ظل وحدة الأرض والشعب والحكم.ولم تتحقق له الوحدة إلا في ظل حكم يقوم على الشورى والمشاركة الشعبية.
الحقيقة الثانية:
إن كل الأحداث الدامية، عبر تاريخ اليمن الطويل، قد زعزعت كل شيء في حياة الإنسان اليمني، إلا إيمانه بالله وتمسكه بالعقيدة الإسلامية، هذه الحقيقة تؤكد أن العقيدة الإسلامية هي ضمير شعبنا الذي يستحيل بدونه الاندفاع إلى الأمام، وتؤكد أن مجتمعنا اليمني في ظل الشريعة الإسلامية الحقة، قادر على فهم واقعه وتكوين النظرة الواقعية السليمة لحاضرة ومستقبله، وضمان الوحدة والديمقراطية والعدالة الاجتماعية.
الحقيقة الثالثة:
إن التعصب الأعمى لا يثمر إلا الشر، وأن محاولات أية فئة متعصبة للقضاء على الآخرين، أو إخضاعهم بالقوة، قد فشلت عبر تاريخ اليمن كله، وأن الاستقرار الجزئي أو الشامل لليمن في ظل حكم يتسلط بالقوة ويتسلط بالدجل والخديعة لا يدوم طويلاً، وغالباً ما ينتهي بكارثة، بعد أن كان نفسه كارثة على الشعب، وأن الحوار الواعي هو الوسيلة الوحيدة لتحقيق حياة أفضل للجميع.
الحقيقة الرابعة:
إن مجتمعنا اليمني بدون الديمقراطية والعدالة الاجتماعية غير قادر على تعزيز وحدته، وغير قادر على استغلال ثروته المادية والبشرية وإحداث التطور والتقدم والحفاظ على السيادة الوطنية.
الحقيقة الخامسة:
إن مجتمعنا اليمني، كان وما يزال يؤكد رفضه لأشكال الاستغلال والظلم، مهما كانت أصولها ومصادرها، ويؤكد –في الوقت ذاته- حرصه على الاستقلال والأمن والإيمان.
تبنى الباب الأول رؤية
الإسلام عقيدة وشريعة
"إن الإسلام بالنسبة لشعبنا اليمني -كان وما يزال- أساس تكوينه الفكري والروحي، فهو بمبادئه وقيمه الأخلاقية، ضمير شعبنا، الذي يستحيل تجاهله أو استبداله بضمير آخر، ذلك أن النظرة الإسلامية للكون والإنسان تتميز بالشمول لكل جوانب الحياة المادية والروحية.
هذا الشمول هو جوهر الإسلام، وهو شمول مرن، لا يصب الحياة في قوالب جامدة متحجرة ضيقة، ولكنه يضعها في إطار سماوي -لا صلة له بالعقلية الكهنوتية- ثم يترك للعقل في هذا الإطار حرية الانطلاق والاجتهاد والبحث والاستنباط واستحداث النظام ولأساليب، وتغييرها"
"إننا نرفض أية نظرية في الحكم، أو الاقتصاد أو السياسة أو الاجتماع تتناقض مع عقيدتنا وشريعتنا الإسلامية"
وتناول الباب الثاني
الإنسان والوطن حيث قرر أن "الولاء الوطني: مبدأ شريف، لا ينسجم بأي حال من الأحوال مع التبعية، أياً كان شكلها أو نوعها.
وتناول الباب الثالث-
الإدارة العدل الاجتماعي والتنمية الاقتصادية
"إننا ونحن في بداية تكوين الدولة اليمنية الحديثة، بسلطتها الدستورية وهياكلها التنفيذية، والاجتماعية، والاقتصادية، والثقافية، واستكمال أجهزتها التنفيذية، لا بد لنا أن نستفيد من تجاربنا، وتجارب الآخرين، من خلال دراسة موضوعية لتلك التجارب"
وتناول الباب الرابع-
الدفاع الوطني
" لقد كانت الثورة اليمنية ومنذ انطلاقتها الأولى مدركة وواعية لأهمية بناء القوات المسلحة البرية والبحرية والجوية فجعلت الهدف الثاني من أهدافها "بناء جيش وطني قوي لحماية البلاد وحراسة الثورة ومكاسبها".
لقد كانت القوات المسلحة تشارك الشعب في جميع الأمة وتعبر عن إرادته وتطلعاته وكان له دور كبير في مناهضة الحكم الفردي المباد وفي الانتفاضات والحركات الوطنية التي توجت بثورة (سبتمبر وأكتوبر) التي أطاحت وإلى الأبد بالحكم الفردي المستبد والاستعمار البغيض وأعادت لليمن حريته، وترجمت طموحات الجماهير اليمنية في أهداف الثورة الستة. "
وتناول الباب الخامس-السياسة الخارجية
"عبر مراحل تاريخية، كانت اليمن تلعب أدواراً فعالة في منطقة الشرق الأوسط بحكم موقعها الجغرافي الاستراتيجي وبحكم كثافتها السكانية في شبه الجزيرة العربي والخليج وتستطيع اليمن اليوم أن تؤدي دوراً أكبر وتترك أثراً ملموساً في الساحة العربية والدولية.
ولا بد لنا أن نؤكد بأن قدرة بلادنا قد تزايدت فعاليتها في المجالين العربي والدولي.
وحتى تكون لنا سياسة خارجية ثابتة ذات أثر ملموس لا بد أن تكون متوازنة ومتطابقة مع سياستنا الداخلية التي تضمنها هذا الميثاق انطلاقاً من أهداف الثورة اليمنية ذلك أن قيام الدولة على أسس ديمقراطية ومؤسسات دستورية وصيانة حرية وكرامة المواطنين وتوطيد الاستقرار وتحقيق الرخاء والرفاهية للمجتمع اليمني والاعتماد على النفس ونبذ التواكل وإزالة مظاهر وأسباب التخلف يجعل من تحركنا الخارجي عملية سهلة ومفهومة ومقبولة وفعالة ولا بد أن نضع منهجاً واضحاً لأسلوب التطبيق العملي لتلك السياسة العامة حتى تنسج مع مواقفنا الصادقة والواضحة من قضايانا الوطنية والعربية والإنسانية ذلك أن العلاقات الخارجية اليوم أصبحت في منتهى التشابك والتداخل والتعقيد والحساسية. "
ومن هناء فان الميثاق الوطني قد تضمن أهم المبادئ والأسس التي توحد كل فئات الشعب وتربط القاعدة الشعبية بالقيادة في ظل النظام الجهوري الديمقراطي القائم على:
- الإيمان المطلق بالعقيدة الإسلامية منهجاً ونظاماً وسلوكاً.
- ديمقراطية الحكم متمثلة في المؤسسات الدستورية وفي صيانة الحريات الكاملة للشعب والوطن.
- العدالة الاجتماعية التي تضمن تنظيم العلاقات الاجتماعية وتضمن تكافؤ الفرص والكفالة الاجتماعية لكل مواطن.
- الولاء الوطني المرتبط بالولاء لله والذي نصون به سيادة الوطن واستقلاله ونرسخ به وحدته أرضاً وشعباً وحكماً.
- تمكين الدولة والشعب من تنفيذ خطط التنمية وتطوير الحياة في جميع المجالات.
- استكمال بناء وتنظيم القوات المسلحة ولأمن، للدفاع عن الوطن وحماية أمن وسلامة المواطن والمجتمع.
- إرساء قواعد الاستقرار السياسي داخلياً وخارجياً واعتماد التعددية الحزبية وتداول السلطة سلمياً وديمقراطياً.
وإذا كان ذلك الفهم وتلك القناعة منا لما ورد في هذا الميثاق ذات أهمية فإن الدفاع عن أهدافه والعمل بما جاء فيه هو الأكثر أهمية وضرورة لدعوة جميع فئات الشعب للتمسك بما فيه نجاح مسيرة التطور والرخاء الاقتصادي والاجتماعي والاستقرار السياسي في ظل الوحدة الوطنية الصادقة والتي تعتبر في الحقيقة الأساسية لضمان كل عمل وطني شريف ولنجاح كل خطة موضوعة وبدونها لن يتسنى لنا بلوغ أي من طموحاتنا المشروعة في هذه الحياة.
وإذا كان هذا الميثاق يشكل الإطار الفكري لتوجهاتنا فإن برامج العمل يجب ألا تخرج عن هذا الإطار مهما اختلفت أساليبها في التطبيق.
ذلك أن تحرك النشاطات الشعبية الحكومية ضمن هذا الإطار الفكري يجعل التحرك تحركاً بناءً يجنبنا مخاطر الانقسام ومغبة الانتماءات غير الوطنية ومساوئ الاجتهادات الفردية والتكتلات النفعية ويجعل التنافس السلمي الخلاق في ظل الممارسات الديمقراطية بديلاً للصراعات الهدامة.
والله الموفق ،،،